أونطولوجيا الحـب المغربي

-مختارات من القصة المغربية الجديدة-

 

asmae

 

"بلا عنوان"

 

 

" أيّها الحبُّ المعلّقُ كأحلامنا المؤجّلة، الكسيرُ كأرواحنا المهترئة، المغرورقُ فينا كالوجع، النازفُ جراحاً وأمنياتٍ، مازالَ الزمنُ المرُّ يمزقُنا على مهلٍ، بلْ أمام ناظريْكَ يارسولَ الزمن الجميل ! ونحنُ قربَكَ نراقبُ انطفاءَ الشمس، فنرقبُ معها - دونَ أن ندري - انطفاءَ الأحلام والأزمنة فينـا!

ياحبُّ ! كنْ كما أنتَ لنا، حارسَ الرمق الأخير الذي ينبضُ فينا، لأنّنا بدونِ بسمتكَ وأمانكَ عـدَم !"

 

-  أسماء حرمة الله-
شاعرة وقاصة مغربية

 

 

 

   دخلَتِ الحفل. 
        

 كان الحاضرونَ يرتشفون من كؤوس الفرحة ويضحكون، حتى أن موسمَ الربيع الأخضر كان هو الآخر حاضرا بينهم..
دخلتْ لبنى الحفل وقد تأبطت صمتها وجرحها وزماناً فقدَ ملامحه، وربما تأبطت أيضا لونَ الغياب، كانت حائرةً ماذا ترتدي لهذا الحفل المميّز، بحثتْ في خزانة ملابسها عن ثوبٍ بلون الربيع أو بلونِ البحر الذي طالما عشقَته، أعجبها ثوبٌ لازوردي، لكنها سرعان ما
بدّلت رأيها واختارت آخر موشّىً بزهرالليلَك، ثم بحثت مرة أخرى عن آخر يشبه تقاسيم زمانها حتى وجدت ثوبا بنيا مخططّا، فارتسمت على شفتيها ابتسامة حبلى، وعقدت العزم على ارتدائه.

 

وما إن همّت بذلك حتى لاحت منها التفاتة إلى فستان أسود اللون، منزوٍ بركن الخزانة، فوقفت تتأمله لحظاتٍ لتهمسَ له سرّاً ، كانت تظن أنها الوحيدة التي تحدّثُه حتى اكتشفت بأن ثمة من يسمع حديثهما، إنها دمعة حرّى انزلقت ثم تلَتها أخرى ثم أخرى ثم أخرى..ثم انزلقَ الصمتُ الجريحُ من مآقيها ليصيرَ رابعهم..
بقيت تحدق بالفستان لحظاتٍ ربما كانت أطول من لحظات عمرها، وقبل أن تقترب منه لتجسّ عمره هو الآخر، قاطعَتها رسالة صوتية وصلتها عبر هاتفها الخاص، فنظرتْ إلى هاتفها برهةً ثمّ أشاحت بوجهها عنه... هذا كل ماتذكره قبل أن يحضرها القدَرُ إلى هنا..أطرقتْ وعادت من أرضِ ذاكرتها إلى أرض الحفل، تحدّقُ بالحاضرين وقد تعثّرت نظراتُها بالأضواء المترامية هنا وهناك، وتعثّرت خطواتها بالضحكات التي كان ينثرها المدعوون يمنة ويسرة، حتى وقع نظرها على مكانٍ شاحبٍ انزوى هو الآخر بعيدا عن أعين الرقباء، لتجد خطواتها تسبقها إليه وأناملها تعصر حقيبتها الصغيرة عصرا، وقد نسيتْ بأن زهرةَ الأوركيد التي تضعها بحقيبة يدها دائما لتُؤنِسَ وحشتها، قد اختنقت من آثار ضغطها على الحقيبة.


          ابتدأت الموسيقى تسكن زوايا المكان، وابتدأ معها موسمُ تساقطِ العنب، وابتدأت النظرات تحاصر لبنى وكأنها تحرس هدوءها وصمتها ووجومها أيضا، بل تحرس حتى بواباتِ السرّ المغلقة..اقترب منها أحدهم وقال لها بصوت منخفض:" يا
لَشجاعتك، كيف قبِلتِ الدعوة بالرغم من كل شيء؟؟"

 

ابتلعت غصتها ولم تنبس ببنت شفة، بينما اقتربت منها مدعوة أخرى وطعنتها بشماتة، متظاهرةً بأنها تحدّث نفسها: "لم أكن أعلم أنّ الحفلَ يخبِّئُ لنا مفاجأة، يبدو أن السهرة ستكون مسلّية فعلا"..


       عصرت لبنى حقيبة يدها مرة أخرى، فَدبّت بمآقيها وضلوعها حرقةٌ تسللتْ إلى كل مسامّها لتعشّش فيها، وراودتْها دمعةٌ مختنقة، أحبّت أن تكون نجمة الحفل الثالثة لتفتتح حفلَ الأوجاع، دمعةٌ أحبّتْ أن تظفر بتوقيع صاحبتها بدفتر الحزن الأول، لكن لبنى حبستها بضلوعها كي تحفظ ماتبقى من إنسانيتها المُراقة.
تقدّمت إليها ليلى أخت العريس والكلماتُ متلعثمة على لسانها، وملامحُها مُهراقَةٌ بأوراق الحيرة، وابتدرتها بالسؤال: " كيف حالك؟ هل أنتِ بخير؟؟" وجلست إلى جانبها تنتظر الإجابة، لكن لبنى لم تنطق صمتا وحسبُ، بل تدثّرت بالصمت وحفرتْه على لسانها:

 

" ياإلهي كيف تسألني عن حالي !.. بل كيف استطعتُ الحضور إلى هنا.. أنا هنا؟ !! قد صرتُ أضحوكة لهم جميعا ومثاراً للسخرية والشفقة، ماذا فعلتُ بنفسي؟؟ سأخرج الآن..لا لن أخرج حتى أبارك له ...له و...لها...لن يهزمني جرحي أبدا، لقد انتهى كلُّ شيء".


           وفجأة ودون أن تعبأ بليلى التي كانت غارقةً في حيرتها تنتظر منها الجواب، انتفضت واقفةً وتوجهت صوب العروسين..:"ياإلهي كم هي طويلةٌ المسافة من مكاني إلى حيث يجلسان..وكأنني أسافر من جزيرة إلى أخرى..لماذا شحبَ وجهُ الموسيقى؟ لماذا صار صوتُ المكانِ نشازاً ؟ لماذا خفتت الأضواء بالقاعة بعدما كانت قنديلاً للساهرين؟ لماذا اختفت النجوم؟ أجل ، النجوم غابت وصار القمرُ دون حارس، ألهذا أيضا ذبلَ الضوءُ وتلاشى؟ لماذا صارَ لونُ الفستان أكثرَ سوادا من لونه الأصلي؟ لم يبدُ لي بهذا اللون حين أخرجتُه من خزانة ملابسي.. لماذا توقّف العزف؟ سيبدأ عزفٌ جديد؟ أين الوجوه التي أعرفها، إنني لاأراها هنا؟ تُرى كيف هي زهرةُ الأوركيد التي بحقيبة يدي؟ لماذا صار الجو حارا مع أنّ الخريفَ لمْ يغادر طفولتَه بعدُ؟؟ لماذا لاأبتسم؟ هل البسمةُ الآن راقدةٌ بحقيبة يدي أيضا؟ لقد سامحتُه وانتهى الأمر..أجل، انتهى الأمر..ياإلهي إنني لم أصل بعدُ إلى حيثُ يجلس العروسان؟ لم أكن أعلم بأن الطريق طويل إليهما..حسنا، لماذا أشعر بالبرد الشديد؟ إن جسدي ينتفض من البرد، ربما يسقط المطر خارجا، يداي باردتان جدا، وأسناني تصطكُّ وشفتاي ترتجفان، ياإلهي ! كيف سأبارك لهما وأنا بهذه الحالة؟ ستتجمّدُ الكلماتُ على لساني أو قد تهرب مني على وجل.. الشتاءُ يحتلُّ شواطئي ولم أصل بعد إلى العروسين، مابال خطواتي متثاقلة، يبدو أنني أُصِبتُ بالحمى، لكن.. أين مفاتيحُ البيت؟ لقد نسيتُها معلّقةً بالباب عند خروجي، ماذا أفعل الآن؟ عليّ أن أرحل لكي أُحضِر المفاتيح ثم أعود، أجل سأعود ولماذا لاأعود؟ إنني سامحتُه وانتهى الأمر، وله الحق بأن يختار من يريد، لا لا لم يخُن بل أنا لم أكن كما يريد، أردتُه محلِّقاً وأرادني نسخةً عن زمانٍ لايعرفني، أردتُه زهرةَ لُوتس وأرادني لغةً لاأتقنُها..أجل، لم يخُنّي أبدا فلماذا لاأبتسم وأحيّي عروسَه وأحيّيه وكأن شيئا لم يكن..لا لا بل خانني وقتلَ الوردة قبل أن تزرعني بأرضها، وهاهو يدعوني لحفل زواجه وكأن شيئا لم يكن، وهاهي نظرات أهله تكاد تمزقني، لاأريد من أحدهم شفقة ولا تعاطفا ولاأي شيء أبدا...لاأريد غيرَ الرحيل..

 

ياإلهي ! لم أصل بعدُ إلى حيث يجلسان، كم تبقّى من المسافة حتى أصل إليهما وسط هذه الجموع من الناس؟ إنهما مازالا بعيدَين عني، هل أذهب إليهما لأبارك لهما أو أحضرُ مفاتيحي أولا ثم أعود؟ ماذا أفعل؟ الآن تذكرتُ شيئا آخر، لقد نسيتُ إبريقَ القهوة على النار؟؟!! "

 

وخرجتْ لبنى مهرولةً ونظراتُ الحاضرين ممن يعرفون الحكاية، تلاحقها حتى أن العروس برحيلها ابتسمتْ ..فأدرَكَ الجميع لماذا كانت البسمةُ غائبة عن محيا العروس قبل ذلك..وعادت الموسيقى لتتراقص بالمكان من جديد، وعادت الأضواءُ تشدو وتزهر، فعادت معها النجوم لحراسة القمر من دموع الساهرين، لكنّ الليلَ تقفّى آثار لبنى دون أن تحس بوقع خطواته، ربما هو الوحيد الذي لم يرمقها بنظراتِ شماتة أو شفقة أو استهزاء.. ربما هو من كان يرقبُ خطوَ جرحها، فتعَثّرَ فيه واغرورَقَ بآخرِ دمعةٍ سقطت..

 

 

 

 

الرجوع إلى مواد الانطولوجيا

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مَقَالاتُ متخصصةُ

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

موسيقى الخلاص

ناس الغيوان

رهانات الأغنية العربية

سيرة ذاتية روائية

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

يوميات

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

روابط ثقافية

الألبوم المفتوحُ

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-anthology2-index.htm</title>

<meta name="description" content="أسماء حرمة الله">

<meta name="keywords" content="قاصة مغربية، كاتبة مغربية