أونطولوجيا الحـب المغربي

-مختارات من القصة المغربية الجديدة-

 

oummou_salama

 

"قصة حب"

 

 

"الحبُّ نَوْرَسٌ يَخْفقُ في القَلبِ يُكَابِدُ الجوَى

 

ألا لَيتهُ يُعَانِقُ مَوْجَ الأمَارَهْ

 

فمَنْ لهُ إذَا انْبلجَ فجْرٌ عَنْ ليْلٍ

 

يَرشُّهُ بماءِ الزَّهْرِ"

 

-  أم سلمى (الدكتورة سعاد الناصر)-
ناقدة وشاعرة وقاصة مغربية

صدر لها:

 " لعبة اللانهاية "

 (ديوان شعري)، 1985

" فصول من موعد الجمر"

(ديوان شعري)، 1986

" ايقاعات في قلب الزمن "

 (مجموعة قصصية)، 1995

 

 

 

يتلألأ وجهه بالصفاء، تبرق عيناه بسعادة ومرح وهو يتطلع إلي بافتتان، نظراته تبعث في أعماقي دفئا وتدفقا، تتغلغل في ذاتي بقوة وعمق. أشعر أنني حتما في لحظات قادمة سأنفجر بشلال دافق يخترق عوالم ملوثة بالزيف والظلم، يطهرها، يعيد نسج تفاصيلها بكثير من الرقة والحنان. التقيته في السجن حين كنت أجري مقابلة صحفية مع مساجين الرأي، لفت نظري بهدوئه وابتسامته التي تضيء وجهه كله, وحين أبديت استعدادي لتوفير بعض الطلبات لهم  في زيارة قادمة، لم يطلب سوى مجموعة من الكتب, اكتشفت بعد ذلك أنه مثلي يقرأ بنهم كبير, يحاول بفعل "اقرأ" إعادة تشكيل واقع انحرف عن مساره. وسقط في مستنقعات التخلف والتهميش, ومنذ ذلك اللقاء عرفت أن القدر  مهد لاجتماعنا بعناية فائقة. وأن سلسلة من اللقاءات التي أتت بعد خروجه من السجن، كانت تشكل ملامح علاقة أكبر من مجرد تفاهم حول بعض القضايا السياسية، وأقوى من الاشتراك في الدفاع عن الحرية بمفهومها الشمولي الواسع. كنت قد خرجت لتوي من تجربة زواج فاشلة، عانيت فيها أقسى أنواع العبودية مع رجل كان كل همه أن يغتصب أنثاه كل ليلة، أعيش معه مشاعر امرأةٍ مسحوقةٍ يدوسُها متى شاء دون أي إحساس بالمشاركة، ويفترش جسدها وقتما أراد بأنانية وغلظة، يفرغ حاجته فيها سريعاً في الظلام على عجل دون أدنى تجاوب. كانت بذرات التمرد تنمو داخلي مع كل افتراش, أرعاها وأسقيها بماء العلم والمعرفة، إلى أن أصبحت أشجارا مزهرة بعبق التحرر,  وبعد معاناة وإصرار استطعت الحصول على الطلاق، وفي النفس جرح ما ظننت أنه سيندمل يوما، وفي الجسد بصمات ما ظننت أنها ستُنسى في خضم رقة وود لا تستطيع لغات العالم وصفهما, وضع يديه على كتفي، ضمني إلى صدره برفق وأناة، كأنني زجاج من البللور الناعم يخشى عليه من التكسير. تساءل بانتشاء:

-"راضية عني حبيبتي؟"

_"كيف لا أرضى وقد علمتني كيف أن الحب يجعل روح المرء بلا حدود ، يستوعب القاصي والداني، وتندثر في ألقه الحدود والتقاليد، وأن التسامح فجر يلملم فيه العاشقون شتات عطاء، ينثرونه دون حساب "

-"ما أروع أن ينفتح الإنسان على مساحات الحب الشاسعة، حيث ترتع الأرواح في تآلف، ترشف معاني الوفاء رشفات  لا تظمآ بعدها  أبدا"

انغمست في بهائه وروعته، وفي حرارة صدق كلماته, تتكسر الأمواج تحت أقدامنا، نصغي لأروع الإيقاعات في سيمفونية الحياة,  تشرق الشمس دافئة في سماء شديدة الصفاء، تعبرنا نسمات رقيقة ،يُحلِّق طائرُ النورس ُ على سطح البحر، ينقرُ الماء بسرعةٍ خاطفة ثمَّ يصعد بفريسته عنان السماء، يتمرغ نورس آخر على السطح ببطء, ألقي برأسي على كتفه، أتأمل لحظات منفلتة من هذا الزمان القارس، أدرك أن الإنسان يستطيع أن يؤثث الواقع بحلم جميل, يحيله حقيقة يعيشها في كل ممارساته. ما كنت أدري أنني سأستطيع بداية حياة جميلة، تنبض بكل هذا الحب الرائع، كنت أعتقد أن أي علاقة لا تخرج عن إطار تملك وامتلاك. في طفولتي، كانت أمي تمتلك أبي بعنف، ولم يجرؤ مطلقا على الخروج عن سيطرتها، أو إبداء أي رأي في حضورها، وحين حاول أن يبدي اعتراضه على زواجي الأول، ثارت بعنف، وظل شهرا كاملا يسترضيها، وهي تزداد إمعانا في صده، وصب جام غضبها عليه. لا أذكر أنني رأيتها إلا في حالات إصدار الأوامر، أو توزيع جمرات غضبها على الجميع، مع تخصيص والدي بحصص أكثر توهجا. كانت نفسي تنقبض كلما بدأت مواويلها الغاضبة، وأنزوي أنا وإخوتي في ركن الغرفة، نرتجف من الخوف، لأنها غالبا ما كانت تنهي صراخها بعلقة ساخنة لأحدنا، ثم تنخرط في بكاء طويل يتخلله رثاء لنفسها وضياع أيامها. وحين مات والدي ذات ليلة ممطرة، انهارت، انزوت داخل قوقعة من الصمت، وكأنها ما كانت تبدي ذلك العنف والقوة إلا لمواجهته. ولما لمست سوء حكمها على زوجي، ومعاناتي معه، لم تستطع الصمود، واستسلمت لنوبات قلبية، أسلمت على إثرها الروح، وتركتنا نتخبط في خطوات متأرجحة.

   لاحظ ارتجافي من عنف ذكريات لم تشأ أن تطفو إلا في أشد الأوقات سعادة، وكأنها تضن علينا بها. دثرني بذراعيه، طوقني بأنفاسه العطرة، وفي صبر وأناة ارتشف دموعي، حاول إبعاد أي قلق عني. قال:

-"اطرح كل زبد على هذا الشاطئ الممتد، واحضن ما ينفع في رحلة الحب والبناء، وطهره بماء هذا البحر".

استسلمت لحنانه، وامتدت الذكرى لتشمل طلبه ليدي وهو في السجن، كنت بدأت أدرك تدفق مشاعره وانسيابها في جداول تسقي كل من يعرفه، كما كنت قد لمست صدقه واندفاعه في ممارسة ما يعتقده حقا وصدقا، إلا أنني ما كنت أعرف أنه قد يصبح في أبهى حالات الجنون إلا بعد أن صارحني بحبه وسط صراخ المسجونين وأهاليهم، وانتزع مني اعترافا بحبه من خلف الأسلاك الفاصلة بيننا. ما كنت أعتقد أنه سيخرج قريبا من سجنه، لتصميمه على عدم الرجوع عن أفكاره، واستعداده لمناقشتها وليس لمصادرتها، حتى تفاجأت بموجة كرم سياسي، أطلق على إثرها أغلب مسجوني الرأي. وبدأت أولى خطواتي في عالمه المليء بالحب والعطاء بدون حدود. تعلمت أن أرشف رحيقهما وأحوله إلى أنهار جارية، يتطهر فيها كل من أراد الحياة. كنا جالسين خارج الخيمة، تمتد نظراتنا نحو آفاق بعيدة تأسر القلب بعمقها وكثافتها، تريح النفس من لهيب واقع متأزم. منذ أن بدأنا نخطط للزواج، أعلنت عن رغبتي في أن أقضي أولى لحظات العمر معه في خيمة صغيرة على شاطئ البحر، نطرح وراءنا كل أثر من آثار الظلم والزيف والتصنع الممقوت الذي استولى على العالم ، فأصبح لا يحيى إلا على أشتات المظلومين واستغلالهم، وبمباركة المزيفين والمتصنعين.  وأعلن هو أن يكون توحدنا الكامل قرب البحر، بعد أن ارتقت الروحان في مقامات العشق، والتحمت آمالنا وأحلامنا وتطلعاتنا في  بوتقة واحدة.

ومثل زهرة في مهب الريح ارتعشت أغصاني وغاصت في كونه الناري. وغدوت سوسنة تسكن ومضات طيف مشرق، ترشف بين الومضة والومضة زلال فيض ملائكي الإيقاع..

 

 

 

 

 

 

الرجوع إلى مواد الانطولوجيا

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مَقَالاتُ متخصصةُ

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

موسيقى الخلاص

ناس الغيوان

رهانات الأغنية العربية

سيرة ذاتية روائية

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

يوميات

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

روابط ثقافية

الألبوم المفتوحُ

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-anthology2-index.htm</title>

<meta name="description" content="سعاد الناصر، أم سلمى">

<meta name="keywords" content="قاصة مغربية، كاتبة مغربية