أنطولوجيا الحـب

-مختارات من القصة المغربية الجديدة-

anthology_2

عن شفافية العتبات في نصوص "أنطولوجيا الحب":

شفافية العنوان

 

تقديم:

للإنسان العامي  نسقه المعرفي المبني أساسا على الثنائيات الميتافيزيقية: شكل/مضمون، صواب/خطأ، جائز/ممنوع، ظاهر/باطن... أعتقد أن الشكل هو المضمون، وأن المضمون بالتالي هو الشكل. إن الشكل هو التجسيد الفيزيقي للمضمون أو بعبارة ميشيل فوكو: «الشكل هو السطح العميق للجوهر». فشكل عمارة متشققة من أسفلها إلى أعلاها لا يمكن أن يحيل إلا على المضمون العميق التالي: القابلية للانهيار في أي لحظة ...

وإذا كان الشكل هو الوجه المنظور للجوهر، فقد وجب الاهتمام بأشكال العرض الإبداعي بنفس الدرجة التي يتم بها الاهتمام بالمادة/الموضوع. وعنوان الكتاب ولوحة الغلاف والنصوص الاستهلالية وغيرها من العتبات-المفاتيح ليست مجرد أفيشات للنص الداخلي، إنها مفاتيح... فمن خلال هذه العتبات يمكننا تشكيل رؤية حقيقية ليس فقط عن العمل الراهن وحده بل عن مجموع أعمال الكاتب السالفة واللاحقة.

تكمن أهمية  العنوان  في  قوة  جاذبيته للقارئ،  تلك الجاذبية  التي تقابلها في مجالات الحياة  الأخرى جاذبية اللون والرائحة والملمس. العنوان،  كما يراه  رولان  بارث ،  يجب أن  يثير في القارئ الرغبة في القراءة. إن الانتباه لعتبات النص ضروري للغاية وإهماله كارثة بجميع المقاييس.

 

1/- ترجمة العنوان: قوة العراقيل ومهارات الحلول

 

إن العنوان هو مفتاح النص والعتبة الأولى والأهم لإدراك بنياته ومن ثم فهمه. لذلك، فترجمة العنوان  قد تحافظ على بنية النص كما قد تخلخلها وتغيرها في أي اتجاه ممكن. وهذا ما حدث مع ترجمة "La Nuit Sacrée"  للروائي المغربي الطاهر بنجلون سنة 1986. فالعنوان الأصلي أو الحرفي  للرواية هو "الليلة المقدسة" في إحالة على ليلة "دينية" في مجتمع من "المجتمعات الدينية على هذا الكوكب". لكن المترجم المغربي كان له رأي آخر في الموضوع: فهو يرى، أولا، أن الكاتب المغربي لا يمكنه أن يكتب إلا على خلفيته الثقافية الأصلية ولو كانت لغة كتابته هي الفرنسية ولذلك أرجع المترجم النص لأصوله المغربية والعربية-الإسلامية بمجرد تعديل العنوان من "الليلة المقدسة" إلى "ليلة القدر"؛ ثانيا، فقد كان المترجم المغربي يعي أن الرواية تترجم لقراء عرب وهم  في غالبيتهم "مسلمين" ولدلك فاختيار العنوان البديل "ليلة القدر" يناسبهم أكثر...

أما بالنسبة للسيرة الذاتية الروائية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي الراحل محمد شكري، فكانت لها قصة مغايرة ومختلفة عن "ليلة القدر" للطاهر بنجلون. فالعنوان كما يتمثله القارئ العربي يحيل على "حياة الكفاف" دلك أن الخبز غير مقصود في حد ذاته.  لكن صديقه الروائي المغربي الطاهر بنجلون الذي يعرف القيمة الرمزية للخبز في الثقافة العربية-الإسلامية  اختار ترجمة عنوان شكري بعنوان وسيط  خاص بالقارئ الفرنكوفوني :"Le Pain Nu". ف"الخبز"، كما يراها الطاهر بنجلون من خلال عنوانه الفرنسي قد تكون "وجبة لوحدها"...

لكن العنوان  الأكثر إثارة للانتباه لرواية "الخبز الحافي" التي ترجمت إلى أزيد من عشرين لغة تبقى هي الترجمة الإنجليزية التي أنجزها الكاتب الامريكي بول باولز وعنونها "For Bread Alone"، أي "من أجل الخبز وحده". وللاختيار مسوغاته. فإذا كان  بول باولز مترجما أجنبيا عن ثقافة كاتب النص، عكس الطاهر بنجلون، فإنه ادرى بجمهور القراء المترجم لهم في النسخة الإنجليزية. فهو يفهمهم ويفكر بطريقتهم. ولأن الخبز غير ضروري في وجباتهم الغذائية كما هو الحال في المجتمعات العربية الإسلامية، فقد عمد للبحث داخل الرواية عن حدث يميزها فوجد ضالته في الفصول الأولى حول سنين المجاعة بعد حرب الريف شمال المغرب.

فبينما يحيل العنوان العربي على "نحن قانعون بما أعطانا الله" ، يحيل العنوان الإنجليزي على الفرار من المجاعة حيث حتى الخبز معدوم، وتلك أعلى درجات العوز والحاجة. 

النص واحد والعناوين متضاربة.   فما  بين "الخبز الحافي" و " "Le Pain Nu و "For Bread Alone" ، هناك أكثر من رواية وأكثر من كاتب وأكثر من ثقافة ... وهذا هو سر جمالية الترجمة الكبير وسر غناها الأكبر: "تأصيل النص المترجم بجعله ينتمي للثقافة المترجم لها".

 

2/- "الحاءات الثلاث"، مشروع ترجمة النصوص القصية المغربية  في جزئه الثاني

 

في "أنطولوجيا الحب"، الجزء الثاني من مشروع "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة"، شارك عشرون قاصة وقاصا مغربيا بعشرين نصا قصصيا عاشقا تأسيسا لمضامين قصصية جديدة موضوعها "الحلم والحب والحرية". فجاءت العناوين فاتحة شهية للنصوص الموغلة في العشق. ولأنها كذلك، فقد كانت مسؤوليتي كمترجم أن أحافظ على هذه الروح الخفاقة في نصها العربي  حتى عند ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.  ولأن العنوان كان يحظى باهتمام خاص، فقد انقسمت  عناوين النصوص المشاركة على شقين: شق مرن يسمح بتطويعه وتخليصه من كل لبس قد يحل به عند ترجمته، وشق واضح وصاف وقابل لكل أشكال الترجمات بما فيها الترجمة الحرفية.

 

3/- ترجمة العنوان في "أنطولوجيا الحب": العناوين المرنة

 

بعض العناوين السردية المشاركة في "أنطولوجيا الحبالجزء الثاني من مشروع "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة تضمنت بعض اللبس والغموض عند ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. الأمر الذي استوجب وقفة خاصة بوجدان محايد، ما أثمر عن دلالات أنسب.

في نص "عاشق أخرس"  للحبيب الدايم ربي، ثمة مصادفة نادرة. فكلمة "أخرس" في اللغة الإنجليزية البريطانية تقابلها كلمة  " Dumb ". لكن ذات الكلمة في الإنجليزية الأمريكية تعني "غبي". ولحسن الصدف، جاء نص الحبيب الدايم ربي جامعا بين "خرس" العاشق و"غبائه" فكان العنوان النهائي:(A Dumb Lover).

أما في نص "عاشق " لمحمد سعيد الريحاني، فقد تركز الاهتمام على الفصل بين "الحبيب" (Lover) بدلالته الممتدة زمنيا و"العاشق" بدلالته الآنية العابرة فكان الاختيار النهائي: (In Love).

أما في نص "حالة شرود" لرشيدة عدناوي، فالعنوان قد يكون مضللا لمن لم يقرأ النص بعد فيتمثل "حالة شرود" على أنها حالة تيه فكري بينما النص تأملي بامتياز ولذلك كان الاختيار النهائي " لحظة تأمل":  (Lost In Meditation).

 أما في نص "كيوبيد والشيطان" لمحمد فري،  فكان التفكير الأولي يميل إلى الترجمة الحرفية (Cupid & The Devil)  لكن  الاختيار النهائي وازن بين اسم العلم "كيوبيد" باسم العلم "إبليس" محل "الشيطان" فكان:  (Cupid & Lucifer) . 

أما في نص " أحلام طاميزودا" لإدريس الصغير، فقد كانت الترجمة الأولى ترجمة شبه حرفية (The Dreams Of Tamizouda) لكننا  آثرنا صياغة عنوانها الإنجليزي على وزن أغنية مجموعة "الآباء والأمهات" الأمريكية الشهيرة (California Dreaming) ما دام الحنين موضوع العملين معا فكان الاختيار النهائي: (Tamizouda Dreaming) .

أما في نص "تانيت " لفتيحة أعرور،  فقد تم إضافة جملة اعتراضية (Apposition)  توضح صفة اسم العلم الأمازيغي "تانيت "، فكان الاختيار النهائي هو "تانيت، ربة الخصوبة":  (Tanit, Goddess Of Fertility).

أما في نص "حبيبة الشات" لعبد الحميد الغرباوي، فقد أضاءت الترجمة الأولية (Chat Lover) دلالات جديدة وبعيدة كل البعد عن مضمون النص لذلك مال الاختيار النهائي نحو "حبيبة افتراضية": (Virtual Lover).

أما في نص "عاشق من زمن الحب" لهشام بن الشاوي، فأضيفت نعت توضيحي ل"زمن الحب" ليصبح العنوان "عاشق من أزمنة الحب الغابرة"  فكان الاختيار النهائي:ِ (A Lover From  Far-away Times Of Love).

أما في نص "بدون عنوان" لأسماء حرمة الله، فقد طرح العنوان عدة قراءات وتطلب الامر تحديد الأقرب لموضوع النص. أولها "تائهة"  (Stray)، لكن "نص بلا عنوان"  كان هو الاختيار النهائي:ِ (Untitled).

أما في نص "ولادة" لوفاء الحمري، فقد كان الاختيار بين ولادة بمعنى"ميلاد" (birth)،  وبين ولادة بمعنى"وضع" (Chidbirth) الذي كان هو الاختيار النهائي:ِ (Chidbirth).

 

4/- ترجمة العنوان في "أنطولوجيا الحب": العناوين الصافية

 

أما بقية العناوين السردية المشاركة في "أنطولوجيا الحبالجزء الثاني من مشروع "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة فلم تشكل صعوبات في الترجمة إلى اللغة الإنجليزية كما لم يكتنفها لبس أو غموض قد يحور النص او يضر به. ولدلك كانت الترجمات كالتالي: "قصة حب" لسعاد الناصر (Love Story)، "حب" لأحمد الفطناسي (Love)، "حب على الشاطئ" لهشام حراك (Love On The Beach)، "هاجس الحب!" لمحمد التطواني (Love Obsession)، " ومضة" لزهور كرام (Flash)، " قبلات" لمحمد نبيل (Kisses)، " هي والسكين" لسعيدة فرحات (She & The Knife)،"بين السماء والارض" للتيجاني بولعوالي (From The Skies Down To The Ground)،"الوشم " لنهاد بنعكيدة (Tattoo)،"إيقاع الدائرة" لإسماعيل غزالي (The Rhythm Of The Circle)، " لازمة المحنة" لمحمد اشويكة (Woe Refrain).

 

خاتمة:

أؤكد دائما، مع انطلاق كل جزء من أجزاء "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية القصيرة"، أن الأنطولوجيا  تكتب "في الهواء الطلق" بعيدا عن كل أصناف الهواء الفاسد والملوث، بحيث يمكن لكل الغيورين الزيارة والمشاركة والتأثير والتقييم والتقويم. لكن ما أود تأكيده اليوم، ونحن نضع هذه اللبنة الأساس لمشاريع قادمة لغيورين قادمين، أن هذه الأنطولوجيا يشرف عليها إعدادا وتقديما وترجمة مترجم "عضوي" ينتمي لجماعة الكاتبات المشاركات والكتاب المشاركين في ذات الأنطولوجيا، يعي حساسياتهم ويحس بنبضهم  ويرى العالم بعيونهم.  فالترجمة في هذا المشروع التنظيري والترجمي معا، وهو بالمناسبة مشروع تطوعي صرف، ليست "ترجمة عن بعد" لنصوص بعيدة لكتاب في فضاءات وأزمنة متباعدة بقدر ما هي "ترجمة عن قرب" لكتاب أريد لهم "التقارب" حول ثالوث ظل حتى عهد قريب في عداد الطابو. وهذه المقالات المواكبة لعملية ترجمة النصوص شكل من أشكال هذا "التقريب".

 

 

 

محمد سعيد الريحاني

 

 

 

هوامش الأعمال العربية  الواردة في المقال:

 

1/- محمد شكري، "الخبز الحافي"، رواية، الطبعة الأولى ، 1982.

 

2/- الطاهر بن جلون، "ليلة القدر"، رواية،  ترجمة محمد الشركي، الدار البيضاء: دار توبقال، الطبعة الأولى، 1987.

 

3/- محمد سعيد الريحاني، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، الحاء الأولى: "أنطولوجيا الحلم المغربي"، الطبعة الأولى، 2007

 

4/- محمد سعيد الريحاني، "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"، الحاء الثانية: "أنطولوجيا الحب"، الطبعة الأولى، 2007

 

هوامش الأعمال المترجمة للغات اللاتينية الواردة في المقال:

 

5/- Mohamed Choukri, "Le Pain Nu", Roman, Traduit Par Tahar Ben Jelloune, Paris: Editions Maspero, 1980.

 

6/- Tahar Ben Jelloune, "La Nuit Sacrée", Roman, Paris: Editions Le Seuil, 1987.

 

7/- Mohamed Choukri, "For Bread Alone", Novel, Translated By Paul Bowles, London: Peter Owen, 1973.

 

 

 

 

 

 

الرجوع إلى مواد الانطولوجيا

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مَقَالاتُ متخصصةُ

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

موسيقى الخلاص

ناس الغيوان

رهانات الأغنية العربية

سيرة ذاتية روائية

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

يوميات

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

روابط ثقافية

الألبوم المفتوحُ

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-anthology2-index.htm</title>

<meta name="description" content="مختارات من القصة القصيرة المغربية الجديدة">

<meta name="keywords" content="أنطولوجيا الحب المغربي