أنطولوجيا الحرية

-مختارات من القصة المغربية الجديدة-

 

yaala

 

"المرأة التي قررت أن تهاجر"

 

 

"لو قرأت تلك الرسائل، أو قطرت أمك في أذنيك الصغيرتين حكايات السندبادين البري والبحري، ومصباح علاء الدين، وعلي بابا والأربعين حرامي، خلال ليالي الشتاء القارسة، لصرت رجلا آخر غير المسخ الذي يربض في قفص مكتبه، يتعلم من المهد إلى اللحد، كيف يتقن الخدش والعض والافتراس كضواري الصحارى والغابات..."

 

مقتطف من نصه "المستنقع"

 عن مجموعته القصصية "شرخ كالعنكبوت" 2006

 

 

- الدكتور مصطفى يعلى-

 

قاص وناقد مغربي

من مواليد سنة 1945 بمدينة القصر الكبير

 

صدر له:

 

" أنياب طويلة في وجه المدينة" (مجموعة قصصية) سنة 1976

 "دائرة الكسوف" (مجموعة قصصية) سنة  1980

 "لحظة الصفر" (مجموعة قصصية) سنة 1996

 "امتداد الحكاية الشعبية" (أبحاث) سنة 1999

 "القصص الشعبي في المغرب: دراسة مورفولوجية سنة 2001

 " السرد المغربي - بيبليوغرافيا متخصصة" سنة 2001

 "شرخ كالعنكبوت" (مجموعة قصصية) سنة  2006

 "القصص الشعبي: قضايا وإشكالات"،  سنة 2007 .

 

له قيد الإعداد للطبع:

 

"نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية بالمغرب"

 "السرد المغربي: حفر في الظاهرة المحلية في نصوص القصاصين المغاربة الرواد".

 

 

 

    أنت التي لم تري البحر أبدا، إلا في السينما والتلفزيون، ولم تسمعي عنه إلا في حكايات جدتك، ومن العائدين من الاصطياف في فصل الجحيم، ومن الآتين من آخر الدنيا، لقضاء عطلتهم السنوية مع الأحباب والأصحاب، مسكونين بجروح الغربة وندوب الحنين، محملين بكنوز السندباد، المجلوبة من السند والهند..ها أنت ذي مسيجة بالبحر المهول، البحر المجهول أمامك، والبحر الأجاج وراءك، وبحر الكآبة داخلك، يلوك روحك المعصورة إلا من بقية أمل خافت. ألا تدرين؟ إنك الآن تقطعين صهوة المضيق عنوة، تماما مثل ما فعل جدك القديم طارق بن زياد، مع الفارق أنه ارتاد هذا البحر غازيا، بينما تزحفين أنت متسللة مهزومة متسولة. أنظري، هاهي حبك الماء البارد المملح تتهادى، مدغدغة الزورق المطاطي العتيق. من كان يصدق أن تكوني هنا الآن؟ هنالك، الجيران والأحباب والأصحاب، يتزاورون، يتزاوجون، يغتابون بعضهم بعضا، يحب بعضهم بعضا، ويكره بعضهم بعضا، وأطفالهم يمرحون ويشغبون في الزقاق لا مبالين بهمومهم. لماذا لا تقول: ويقتلون بعضهم ويقتلون؟ لا علينا، كان يجب أن تكوني بينهم الآن، محبوبة مكروهة، تحبين وتكرهين، نمامة تغتابين وتغتابين، تتنفسين هواء البلد، وتشربين ماء الوطن.. لكنني كنت هناك امرأة بلا أقراط طويلة تتدلى على جيدها، ليس لها قفاطين شهرزاد حريرية تبرز مفاتنها، ولا أحلام دنيوية وأخروية تعزيها. كنت هناك امرأة ميؤوسا منها، حبة رمل في صحراء قاحلة،لا يهتم لحضورها وغيابها أحد، سيان إن عاشت أو ماتت. أجل، ولم يكن لديك ما تخسرينه قطعا. فتآمرت مع نفسك سرا. وسرا جازفت ببيع ما أمامك وما خلفك. حملت صرتك الخيشية. نزعت قلبك، ورميته في ثلاجة. ركلت أثقالك، ناذرة روحك للبحر. وعاهدت نفسك ألا ترجعي إلا ووراءك قوافل الشتاء والصيف، فتستقبلين استقبال كبار التجار المعتبرين. غير أن شيئا واحدا كان مستعصيا عليك انتزاعه، إنه عناد ذاكرتك، التي تنغل الآن في شرايينك كالنمل القارض.. بل وقف علي في المنام شيخ مهيب وقفة ميمونة، أعادت للقلب فرحته. إنني اذكر جيدا، لقد كان شيخا أبيض، ذا وجه سموح بشوش، ولحية طويلة بيضاء، وجلباب أبيض ناصع البياض. حملني في كفيه برعاية، وراودني باسمي: » إن الطيور المهاجرة في موسم الغرق، قد رحلت وراء سفينة نوح، فالحقي بها يا مفطومة، قبل فوات الأوان، والأوان الملائم لا يأتي إلا مرة واحدة في العمر، وهذا أوانك المناسب والأخير« . وفهمت عند يقظتي أن سعدي يوجد في البحر. لقد تمسحت بقلبي أشواق مبهمة، لا طاقة لإنسان بتحمل عتوها، نهشت جعبة صبري فبددتها، ولم يبقى أمامي سوى الإذعان لصوت البحر، فانسقت وراء أشرعة هذا السعير.

 

 والآن، هلا أعجبك أن تكوني ههنا، امرأة وحيدة، بين رهط من غرباء بلدك وبلاد سوداء، لا تفقهين من لغاتهم شيئا، ولا تتوسمين فيهم شيئا؟ أن تراها تروقك المغازلات السوقية السمجة، التي يمطرك بها هذا الفاجر، المعتز بملكية الزورق، وكأنه يملك الكرة الأرضية برمتها، ولا هم له سوى جني الأرباح، حتى وإن اضطر لبيع والديه في سوق العبيد؟

 

وكانت حين جرت جسمها المكدود نحو القارب المطاطي، وهي تشد على الصرة الكبيرة فوق رأسها بحرص شديد، قد تفاجأت به يثب منقضا عليها من الخلف. أحست بكماشتين مفلطحتين سميكتين تشدانها من تحت إبطيها، تضغطان على كرتي اللحم المتهدلتين في صدرها، تحملان كالرافعة جسمها الصغير الممصوص، تضعانه على متن القارب المتمايل، مثل تابوت طفل واقف معد للترحيل، وخلال العملية كانت آلة حادة تشكها في خلفيتها. لم تشعر عندها بسخونة في صدرها، ولا بصعقة الكهرباء على عجيزتها، فقد نسي جسمها منذ مدة، الاستجابة لأية إثارة من هذا النوع. بل جفلت محاذرة فقدان توازنها، حتى لا تسقط الصرة الثقيلة من على رأسها، والصرة كما يبدو من شدة حرصها عليها، هي آخر ما تبقى لها من متاع الدنيا. وبدل أن تشكره على هذه الحفاوة الزائدة المتقنة في غير ما شبهة، التي قدمها من أجل تسهيل صعودها إلى الزورق، باعتبارها مجرد حرمة بلا حماية أو شفيع، كما تدعو الشهامة الرجولية، حدجته بنظرة جانبية، فيها الكثير من همجية القراصنة،ثم نبحت عليه:

    - الله يلعن والديك يا ذاك الزبل. فلولا هذه الصرة، لفقأت عينيك بأظافري، أيها الخنزير.

    

وكان هو قد انتهى من القول في تمثيل مقصود، وكأنه على خشبة مسرح تجاري حقيقي: » تفضلي يا فخامة البارونة المبجلة، شرفت يختنا الإمبراطوري، الذي يتشرف عظيم الشرف بوضع قدميك النبيلتين عليه، فهو لا يليق إلا بأمثالك من سيدات المجتمع الراقي، الذي هللت منه. فعذرا يا سيدتي المحترمة على هذا التقصير، ولولا أننا في أحشاء الليل، لأحضرنا فرقا موسيقية متنوعة، وحشدا من جماهير غفيرة تتلاطم كالأمواج، وتحمل اللافتات بالشعارات والعبارات الممجدة، من أجل تشييعك في أفخر صورة من الأبهة والتبجيل والتعظيم «. ثم انهمك بهمة في إتمام شحن البغال المصدرة، كما ينعت زبناءه، وبين الفينة والأخرى يضرب الهواء بذيل ثور مدبوغ طيع، لا يفارق يده.

 

تهالكت في ركن منزو بمقدمة الزورق. أنزلت صرتها الثقيلة في رفق وحرص شديدين. وضعتها على حجرها بحبو مبالغ فيه، تماما مثل حبو الأم على ولدها. غطتها بأوراق جرائد قديمة، وكأنها تسترها من لسع البرد بلحاف صوفي ممتاز. ولما انطلق الزورق منزلقا على سطح البحر، أحست ببرودة قارصة تعتري قدميها. احتمت بالصمت، فأمست موصدة كالخرساء. تقوقعت على أنقاضها الداخلية تجتر همومها، وتبوح لنفسها بمخاوفها، ماذا عن الساعات القليلة القادمة؟ هل تكونين رقما آخر يضاف إلى عدد الغرقى؟ أم بين يد قوة خفر السواحل، أو الحرص المدني الإسباني؟ أم تائهة في الثلث الخالي من الغابة؟ أم نصف جثة عائمة على سطح البحر؟ أم ملفوظة عند شاطئ مهجور، جسدا أزرق عاريا تماما، يحوم حوله الذباب الأزرق، ويتشممه قطيع من الكلاب الضالة؟ أم تراك تعادين ذليلة مكسورة إلى بلدك، بعد كل ما تحملته من خسائر مادية، وتضحيات بدنية ومعنوية؟ أيمكن أن يكون الحلم الذي مر بك في المنام، مجرد طيف كاذب؟ لماذا لم تتكهني بذلك في حينه؟ ليتك راجعت العرافة لتقرأ طالعك أولا، وتمدك بتميمة واقية لا تخترقها السهام المسمومة قبل الإقدام على هذه المغامرة غير المأمونة؟ لا يهم، فسوف أعاود المحاولة تلو المحاولة، إلى أن انجح أو أموت، فليس هناك سوى حياة واحدة وموتة واحدة، ألم أكن هنالك ميتة حقا؟ ماذا سأخسر بعد؟ وحال أحسن من حال، تحركوا ترزقوا، فمن يدري؟ قد يكون الحظ أرفق بي، وأحسن من كل هذه التوقعات السوداء، قد أتمكن من التسلل إلى إحدى المدن في غفلة من الأعين المترصدة، فأعثر في وقت واحد على عمل، أي عمل، وعل ابن حلال، كيفما كان. ماذا يمكنني أن أفوز به في دنياي أكثر من عمل وابن حلال، أو على أحدهما على الأقل؟

 

توغل الزورق أكثر وسط بحر من الماء المالح، وبحر من الظلام الداكن، دون ما بوصلة سوى قرني استشعار صاحبه. آه، كيف يستطيع هؤلاء أن يرقدوا غافلين عما حولهم، رغم أنهم في فم حوت هائل، قد يطبق بفكيه عليهم في أية لحظة؟ وعجبا، كيف يجهش هذا الملعون بأغنية شعبية، محرضة على المعصية، في هذا الجو الملغوم؟ وأنا ماذا أفعل هنا؟ وأي عفريت مجنون جاء بي؟ أية حماقة؟ أكان هذا مكتوبا علي؟ ولتتغلب على تعاستها دخلت في حالة مناجاة مع البحر؛ يا بحر، يا أمل الصيادين رغم عدائك، وكعبة المصطافين بالرغم من ملوحتك، ومعبر المسافرين على الرغم من أهوالك، وموئل الحوت والحوريات، ومقبرة الضحايا والغرقى واليائسين... باسم أسرارك العظيمة، وكراماتك العجيبة، وباسم تضحياتنا الجسيمة، وآمالنا المتواضعة، واشتياق الآباء، وتطلع الإخوة، وحنين الأبناء، وطمع الأزواج... أستعطفك وأتوسل إليك، باسم من خلقك فسواك على هذه الصورة المهيبة، وباسم عشقي الجارف المعانق لجبروتك وغموضك، أن تكون رحيما بنا، وستارا لنا، ومسهلا وصول زورقنا بسلام إلى بر الآمان، وأن تجعل سعينا مبروكا، وفرصتنا الأخيرة موفقة، زادك الله شساعة وعظمة، وحفظك من كل تلوت وجفاف، آمين يا رب العالمين. فتهيأ لها أنها سمعت صوتا ضخما مدويا، يقول: شبيك لبيك، إن دعاءك مستجاب يا أمة الله.

 

الفضاء يبدو، بفعل بحر الظلام الذي يغطي بحر الماء، ضيقا على سعته. رائحة اليود القوية تنعش التنفس. والزورق يظهر كأنه لا يتقدم ولا يتأخر، مثل سلحفاة من تلج راسية. هل كذب عليها الملاعين، حين قالوا لها إن الزورق يصل بقدرة قادر لحظة انطلاقه يطير بأجنحة لا يراها الراكبون، ويراها صاحبه، ولا مسافة هناك بين الضفتين؟ بينما يبدو الليل الداكن والطريق المائي المائج هنا الآن، على صورة واحدة مؤبدة، كما لو كانت هناك أسوار فاصلة بين هذا القفص، وعالم الشمس والنهار والناس والمدن والمواصلات والعمارات والأسواق.. حبذا، لو كان هذا الزورق اللعين طائرة نفاثة، تحطني في رمشة عين، بأي مكان كان من نصف الكرة الأرضية الشمالي. لكنه مجرد زورق مطاطي رث، لا أقل ولا أكثر محكوم عليه أن يصل أو لا يصل.

 

كما فعلت السماء أكثر من مرة، تسلل عبر شقوقها ضوء كئيب، انعكس على السطح المائي البراق، فازداد انقباض روحها، وشحوب وجهها المغمور بالحزن العميق. صاحب الزورق قام في تثاقل. توقف عند حافة الزورق رفع من أمام في حركة آلية جلبابه المتسخ، المصنوع من وبر المعز. راح يتبول على سطح البحر. عندما انتهى، جاء وجلس قبالتها قريبا منها، يسعى إلى تكسير استغلاقها، دون أن يضع في حسبانه، أنها قد تكون أعمق غورا من البحر، وأكثر غموضا من جزيرة الواق الواق، هل نسي أن المرأة لغز حقيقي كما يقال؟

 

تفادته في البداية، ثم عادت وشرعت تتأمله بإمعان لأول مرة، وكأنما تبحث عن مزية ما فيه. تفاجأت بأنه ضخم أكثر من اللازم، إلى درجة أنه بدا لها يملأ كل الزورق. أثار انتباهها فيه أيضا، ما تبقى من شعيرات طويلة شيباء منفوشة فوق رأسه، وما يطل من زغب أبيض من شق جلبابه عند الصدر. ضحك ضحكة بلهاء، بفم واسع خاو من الأسنان، باستثناء ثلاثة أنياب وثنيتين، كلها صفراء خربة، موزعة على الفكين الأعلى والأسفل في غير تساو. اهتزت لضحكته كل الأمكنة المترهلة في جسمه السمين مثل خنزيرة مرضعة. هي أغلقت أنفها بكفها، متقية موجة مباغتة من رائحة قطران خانقة، مرت بطيئة ثقيلة. فظنها تغطي بكفها ضحكة مشجعة أفلتت منها.

 

انتفضت ذاكرتها التي كانت قد بدأت تتناوم، وجعلت تمخر عباب السهو، يا لها من حظوظ ! كان من الممكن أن أخلق وفي فمي ملعقة من الماس، لي شعر ذهبي يرفرف مع رفرفة الريح، وأنا أسوق سيارة حمراء عارية مستطيلة، لها زعانف سمكة، ولي قوام فارع رشيق، بفعل حسن التغذية وتنوع الرياضة وكثافتها، ومعجبون وطامعون من علية القوم، وأسكن قصرا شامخا، بحديقة شاسعة مخضوضرة مزهرة، يشقشق فيها الأطفال والطيور، لي فيه جناح خاص، يزخر بما لذ وطاب من آخر منتجات الماكياج وثياب الموضة، وأرسل لمتابعة دراستي العليا بفرنسا أو إنجلترا أو أمريكا وكندا، أعين عند رجوعي منها رئيسة قسم في مؤسسة مهيبة بمرتب خيالي، تماما كما في المسلسلات التلفزيونية المصرية والمكسيكية... لعنة الله على الذاكرة؟ فما هذه الأحلام الخيالية المستحيلة، المنتمية إلى عالم ألف ليلة وليلة؟ إنني لم أضمن في الأيام الأخيرة حتى كسرة خبز كافية لي، ولوالد مقعد، وأم عمياء، وإخوة ستة صغار مطرودين جميعا بحمد الله من المدرسة يتكدسون بقدرة قادر كالسردين داخل علبة، بالكاد تتسع لثلاثة أشخاص !. ألم أضطر للاشتغال خادمة في أحد المنازل، غادرته بسرعة حين تبين لي أن أصحابه أرادوني معلمة جنس لابنهم البكر؟ ألم أنتقل بعد ذلك للاشتغال في تهريب السلع الأجنبية، وسرعان ما توقفت إذ اكتشفت أنني أشتغل لحساب غيري دون مقابل؟ ألم أتحول عندئذ للاشتغال بائعة في أحد المحلات التجارية، فكدت أدخل السجن بتهمة السرقة؟ وبعد اقتناعي بالمثل القائل ( سبع صنايع والرزق ضايع )، ألم يتبق أمامي سوى أن أصير مومسا رفيعة الشأن، بعيدة الصيت إلى أقاصي الشرف، تعمل بضمير مهني عال، وتملك وكالة بموظفين وهواتف وفواكس وسيارات عمل تتهاطل عليها الطلبات من البحر إلى البحر، لا سيما من بحر الشرق، وقد يتوسع المشروع، فيصبح للمكتب المركزي فروع في معظم المدن الرئيسية، ولما لا في معظم العواصم العالمية؟ لكنني صرفت نظري عن ذلك كله، مادامت لا تزال هناك إمكانية الهجرة إلى بحر الغرب متاحة، وإن كنت متأكدة الآن من أنني بالفعل خلقت من ضلعة عوجاء، ومن دم أسود، كما يعيرني أهلي باستمرار. فالحقيقة التي لم يخفها أحد من أهلي، أن قبحي الشامل، لم يكن ملائما لتحقيق تلك الأبهة بالسرعة أو البطء المطلوبين، وأن أقصى ما أستطيعه هو الوقوف على الرصيف لاصطياد سائقي الشاحنات العابرة للمدينة. ألم يكن لائقا بي أن أثابر على ذلك، خير لي من حشر نفسي داخل هذا الجحيم؟ ولكنني قد حاولت بضع مرات، فكانت نتيجتها المادية مخيبة لأقل ما هو مطلوب؟ لقد خانني زماني، لأنه ابن سفاح، لا يرى ولا يسمع، ولا يتكلم، ولو ظفرت به رجلا لخنقته، غير أنه في الحقيقة مجرد امرأة خائرة، وليس له من الرجولة إلا الإسم. آه، لو كان أبواي يدريان بما أنا فيه الآن. لكن، ماذا بوسع المسكينين أن يفعلاه؟

 

انطمست معالم أعيادها وحطام مآتمها المتقلبة في حنايا سهوها، حين انتبهت إليه مذعورة، فوجدته يفترسها بعيون عمشاء ضيقة، ترقص داخلها ثعابين شبق مجذوب، لم تعهد مثله في رجل من قبل. هل انقلب من وغد إلى ذئب؟ قطعا لا يمكن أن تكون هذه نظرة إنسان. وقد زاد من بشاعتها ندبة غائرة، ممددة على طول جبهته البارزة. شقوق السماء التأمت، فعاد سديم الظلام الموصول بسديم الظلام غامضا مهيبا. بدا الجميع ضائعين، منسيين من العالم. سمعته يسعل، يجتهد في حبس سعاله. مسح بكم جلبابه بعض المخاط واللعاب من أنفه، ثم حشرج لها بما يشبه الهرير:

       - يا معزة جبلية شاردة، ونوار تين شوكي، يا بومتي الشنيعة، إنني أموت في النسانيس وباقي فصيلة القردة. تعالي إلى أحضاني لنحول هذا المأتم عرسا.

   

فخرجت عن خرسها رغما عنها:

    - أهذا وقته أيها الحجر؟ أين نحن من ذلك يا بن الأفاعي؟ اجلس مكانك واحمد الله يا وجه النحس يالفنطيس.

    ولم ينفك، حين غلبت شهوته العارمة عقله الغافي، أن قام إليها، إذ تصور نفسه يستبيح احتضانها وتقبيلها وطرحها على وجهها، وهي ممتثلة متراخية متأوهة بين يديه، مثل فاكهة قريبة سهلة القطاف، من غير أن يبالي بالتباس جسدها اليابس وسنها المراوغ، أكانت كهلة منكمشة، أم فتاة طرية في مقتبل العمر؟ فقد أنسته ملكيته للزورق أنه لا يملك زبناءه أيضا. لذلك لم يتوقع عندما جازف بالاقتراب منها، أن تركله عند حجره ركلة فولاذية مسمومة، محملة بكل مراراتها وغيظها، حمحم لها بنصف صيحة، ثم أنكتم تنفسه على إثرها بعض الوقت، كأنما ضربته بمطرقة حداد على خصيتيه ضربة عنيفة، فاقترب من الموت، إلا أن الروح عادت إليه تدريجيا، ورجع إلى مكانه يصر على لحم أسنانه، ويتلوى في بطء مرير.

      انشقت السماء من جديد، وتسربت خيوط ضوء باهت، سرعان ما دخلت في ملاعبة الأمواج الصغيرة المفضضة المرتجفة. نظر إليها نظرة دب جافل، ونظرت إليه نظرة ازدراء مشبعة بالتشفي، خاصة وأنها رأته صغيرا منكمشا في الزاوية مثل بالون مفرغ من هوائه. ند من مكان ما في الزورق أنين خافت. صاحب الزورق، رغم انه لا يزال يتوجع، لم يفته أن الأنين لم يصدر عنه. نظر إليها نظرة معادية، فوجد وجهها جامدا لا يعبر عن أي انفعال، من غير أن يعلم أنها تكلست من الداخل، بحيث لم تعد تشعر بخوف ولا بحنين، ولا تستجيب لأي عاطفة مفعمة بالحس الإنساني. تبدد وجعه وربما تناساه، وكأنما لم يكن قبل قليل على وشك الموت، فهمست لنفسها: ( قط بسبعة أرواح ). جس الصرة بذيل الثور المدبوغ، وهو ينهرها في عبوس وشراسة:

              - ماذا تخفين في تلك الصرة أيها العقرب السام؟

              - وما شأنك أنت؟ ادخل سوق راسك يا ذاك المسخوط.              

                 ازداد الأنين الخافت، وتحرك شيء داخل الصرة. فمد يده إليها في إصرار متوتر، شرع يفتح عقدها عنوة، ويزيح الخيش في عصبية، دون أية مقاومة منها، بل إنها ظلت راسية في مكانها، مستسلمة للأمر الواقع، فيما تحول نبض قلبها إلى ضربات طبل إفريقي هائل يصم أذنيها. بدت موشكة على البكاء، لكنها لم تطلق بئر الدموع المحبوسة في محجريها، وكأنما لا يحدث شيء خطير يدعو للتمزق يخصها.

    اشتط تهجمه، فقال لها متشفيا:

    - أتريدين استغفالي يا جيفة؟ إذن لتثكلك أمك، إذا لم تؤدي ثمن سفر الرضيع. سأطوح بك إلى البحر، إذا لم تؤدي. سأحذفك من الدنيا، أفهمت؟

    تمتمت في انكسار يشبه التسول:

    - لم يبقى معي مال. سأؤدي فيما بعد. سأعود ذات يوم ومعي المال الكافي. اعتبر الأمر قرضا مؤجلا وبفائدة. ثم إن الرضيع لن يكلفك شيئا.

    فتضاعف إصراره، وهو ينش الهواء بذيل الثور المدبوغ: «أكيد أنهم قدموا لك صورة مشوهة عني. هل قالوا لك: إنه رجل كريم رحيم رقيق حليم؟ إذن، لقد كذب عليك الأوغاد مغررين بك. إن أحدا لا يمكن أن يسافر في زورقي دون أداء، أفهمت يا أم أربع وأربعين؟ حتى الجن الأسود لا يمكنه، هل نحن نلعب؟ أم أن أحدا قال لك إنني فتحت ملجأ خيريا؟ ثقي أنه ملجأ شري. ولتتأكدي، فاعلمي أن رجلا دأب على تجويعي وضربي طوال طفولتي هو والدي، قد أدى لي ثمن تهجيره، غصبا عنه وعن استعطاف أمي».

   

الآخرون مسترسلون في رقادهم أو غيبوبتهم، لا يرون، لا يسمعون،ولا يتكلمون. ومن يعلم؟ فقد يكونون غير مبالين بما يحدث أمامهم، مادام كل منهم قد أدى آخر ما استحصله أو اقترضه، ولا يعنيه غير نفسه المنهوكة، على أمل حدوث معجزة ما تخلصهم من ورطتهم التي وضعهم فيها زمنهم المقلوب. الكونان الليلي والبحري أيضا يعلنان لا مبالاتهما المتواطئة. كيف ستتصرفين أمام هذا الحصار، بلا طلسم واق، ولا جني قمقم مرصود عليك، ولا فارس شهم يسعى إلى إنقاذك، ولا سلاح سحري خارق مثلما حفظته من حكايات جدتك؟ أين المفر؟ من ذا الذي يحميك من البحر المصفح بالظلام والملوحة، والبحر المتوعد بالأوهام والمجهول؟ والبحر أمامك وخلفك، وعلى يمينك ويسارك، والفراغ المهول فاتح فاه، وهذا الوحش الشرس لا أمل فيه، وليس لك والله إلا مكرك وقدرتك، أما دموعك فعصية عاصية. تمنت في هذا اللحظة لو أنها لم توجد في هذه الدنيا أصلا، أو كانت حجرا أصم، أو معدنا صلدا، أو كائنا بلا ذاكرة، أو على الأقل لو تظهر سفينة نوح ثانية لإنقاذها والرضيع، أو تأتي طائرة هليكوبتر لانتشالهما، مثلما تفعل مع الغرقى. فكرت أن تحتضن الرضيع وتثب به جريا فوق سطح الماء كما علي الأرض فقد يكون البحر أرحم بهما. وتحت ضغط الحصار الذي لا مفر منه، وجيشان الأفكار الممسوسة الساخنة، انسلخ من جلد المرأة المتماسكة رجل فظ قاسي القلب، منتفض في هدير، كعفريت المصباح السحري. حمل الرضيع الذي لا يكف عن الأنين الخافت. رفعه بأيد متشنجة إلى الأعلى. المرأة / الرجل تقف على تخوم الخبل. أطلقت الأيدي المتقلصة الجسم الصغير في ضراوة القراصنة. وبسرعة اختفى بين فكوك البحر. لم يخلف وراءه سوى دوائر، تتوالد بكثرة وتتلاشى بسرعة، من غير أن يروع أحد، أو يصاب بالذهول، ولا سمع صوت لحفظة القرآن يتلون (عم يتساءلون عن النبأ العظيم)، أو لكورال جنائزي يعمق الإحساس بالفاجعة. وإنما هو الصمت، ولا شيء غير الصمت المتواطئ، كما الظلمة والبحر. مثل صمت المقابر هو، أو هدوء ما قبل العاصفة. فدعت في نفسها البحر: أيها البحر العظيم، عجل بغضبك، فزلزل زلزالك، وأخرج أثقالك، وفاجئ الأوغاد بعاصفة غير متصورة ولا متوقعة، مبرقة مرعدة ممطرة صاعقة لاطمة محرقة، مهلكة مغرقة، ترتعد لها الفرائص بردا وفزعا، وتتسارع دقات القلوب هلعا، وتتعالى الأصوات المستنجدة رعبا.. لا تأخذك فيهم أي شفقة، اجعل أنيابك تتعالى في مهبك ولا ترحم أحدا، بل تتراقص كالأفاعي رقصة وحشية مصرة، ترج الزورق بما فيه رجا، ترفعه، تخفضه، تحركه حركات دائرية حلزونية، ثم انفلق وابتلعته. وابحراه، هيا استجب لهذه الحرمة المستجيرة برهبتك، المستمسكة بلججك، فأنت أنت القادر بقدرة من خلقك على القادرين، ومهلك العمالقة والمتجبرين، آمين.

   

جلست المرأة / الحرمة متيبسة، يسكنها بحر من القهر، وبحر من الوحشة. ولما عادت أعمدة الضوء الباهت تطل مجددا من شروخ السحاب على غابة الظلام تداخلت في جلدها أكثر، إذ تصورت عنكبا هائلا يزحف على الماء تجاه الزورق. ثم انفجرت بنوبة رهيبة من عويل، أقرب ما يكون إلى الرغاء أو الخوار أو الصهيل. فيما عاد صاحب الزورق إلى مكان القيادة. وضع ذيل الثور المدبوغ جانبا. سحب (سبسيا) طويلا مزوقا. أوقد بيت ناره بعناية. جعل يستف دخان (الكيف) في نفس طويل، ثم ينفثه من منخريه، في متعة وهدوء فاترين. وكان الآخرون لا يزالون سادرين في جمودهم،كسلعة فعلية مصدرة. ولم يشعر أحد من ركاب الزورق، أن تموجات البحر قد شرعت تتضاعف، وأن تمايل الزورق قد تضاعف هو الآخر.

 

 

 

 

 

الرجوع إلى مواد الانطولوجيا

 

 

خريطة الموقع

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

مَقَالاتُ متخصصةُ

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

موسيقى الخلاص

ناس الغيوان

رهانات الأغنية العربية

سيرة ذاتية روائية

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

يوميات

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

روابط ثقافية

الألبوم المفتوحُ

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

ENOTE

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-anthology3-index.htm</title>

<meta name="description" content="مصطفى يعلى">

<meta name="keywords" content="قاص مغربي، كاتب مغربي