رَيْحَانِيَاتٌ

 

Description : Description : Description : at_desk

 

 

 

الحاءات الثلاث

أعمال مشتركة

المدرسة الحائية

مجاميع قصصية

لقاءات مع مبدعين

روايات

 لقاءات مع الريحاني

بَيَانَاتُ أدبية

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

تكريم الأصدقاء

مترجمات ْ

قصص قصيرة جدا

درَاسَاتُ إسمية

المَكْتَبَةُ الإلكترونية

الأغنية العربية

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

أدب الطفل

الألبوم المفتوحُ

 

 

 

 

 

قصائد شعرية

أبحاث في الترجمة

أبحاث  في الفن

أبحاث  في الإعلام

 

 

أبحاث في الفن

 

 

جمالية العمارة المغربية

 

 

 

  (نص مداخلة مُحَمّد سَعيد الرّيْحَاني في ندوة على هامش "المهرجان الدولي الثامن للفنون التشكيلية"

 التي نظمتها جمعية "بصمات" سطات-ورديغة بمدينة سطات المغربية

يوم الخميس 8 أبريل 2010)

 

 

 

  

 

العمارة فن من الفنون السبعة:

 

في كتابه "فن العمارة  عرف هيغل الفنَّ من خلال ثلاث ومضات:

التعريف - الومضة الأول: "الفن هو الروح مجسدة في المادة"

التعريف - الومضة الثاني: "الفن نشاط حسّي هدفه تحرير الروح"

التعريف - الومضة الثالث: "الفن يستجيب لحاجة بدائية تتمثل في إظهار التمثلات والأفكار المتولدة في الذهن وفي إسباغ شكل ظاهر عليها"...

 

بتركيب هذه التعريفات المتكاملة والمتجانسة، يتضح الفن كشكل من أشكال التعبير عن مكنون الذات إما  بالشعر، أو الرقص، أو الموسيقى أو الرسم أو النحت أو السينما أو العمارة فيما صار يعرف ب"الفنون السبعة"  وإن كان بالإمكان إضافة أنماط فنية أخرى: كالتصميم الرقمي، وإعداد الديكور، والطبخ وغير ذلك...

 وبما أن الفنون هي إنتاجات إنسانية تعبر عن هموم وآمال الإنسان، عن واقع وآفاق الإنسانية في كل مكان وزمان... فإن المعمار يبقى أحد تجليات العالم  الداخلي للفرد والمجتمع كما يبقى أحد أبرز تمظهرات "تموقع الدولة والمجتمع معا في الدورة الحضارية".

 

ويبقى من الحيوية بمكان التدقيق بين ثلاثة مفاهيم متجاورة على مستوى الاشتقاق اللغوي ومستقلة من حيث التخصص والاشتغال: العمران والتعميير والمعمار والعمارة.

العمران civilisation هو نظام السكن والسكان معا و"جدلية التفاعل بينهما وبين المؤثرات الخارجية عنهما". ولعل أول من اطلق هذا المفهوم هو عبد الرحمان ابن خلدون مؤسس فلسفة التاريخ التي أطلق عليها اسم "علم العمران".

 

أما التعمير أو "التخطيط"  planification فوظيفته تنظيم المباني و تدبير المنشئات وضبط امتداداتها على الخريطة وعلى الأرض.

 

فيما تبقى العمارة، في اللغة والثقافة العربيتين، مرادفا ل"المعمار" architecture وهو  "فلسفة جمالية" في البناء والتشييد تحقق ذاتها من خلال التطبيق الميداني على الأرض. المعمار هو مرادف الهندسة المعمارية مادامت وظيفته هي ذات وظيفة المهندس في كل المجالات جعل النظريات العلمية والفلسفية واقعا على الأرض.

 

العمارة، إذن،  هي "مجموع فنون الإبداع في البناء" تشييدا وتشكيلا وزخرفة ونقشا. إنها مستوى التمدن الذي تصله حاضرة من الحواضر مجسدا على صعيد التصاميم والهندسة المعماريتين. لكن العمارة ليشت مجرد لوحة فنية، إنها خزان قيم اجتماعية أيضا...

 

 

وظيفة العمارة: الاحتفال بالجمال وبالقيم الاجتماعية:

 

اشتغل الفن طويلا على خلفية "محاكاة الواقع": فالرسم حاكى لمدة طويلة أنشطة الإنسان من صيد وسفر وزراعة؛ والنحت حاكى الإنسان ذاته لزمن طويل من خلال سعيه لتخليد المحبوبين أو المشهورين من الناس؛ والعمارة حاكت لعصور طويلة قيم الناس فرسّخت تارة لأنظمة أموية وأبوية  وبشّرت تارة اخرى بقيم جديدة  كالحرية والعدالة والتسامح والانفتاح...

 

لقد كان دائما للعمارة ظاهر وباطن. ظاهرها " الجمال" وباطنها " قيم المجتمع" إذ مع تغير القيم الاجتماعية تتغير العمارة التي تبقى "التجلي المادي" لها. فقد وجدت لبنان، بعد انتهاء الحرب الأهلية، نفسها وجها لوجه مع هذا الاختيار الصعب وفضلت، رغم العروض المغرية لشركات الإعمار الدولية العملاقة، خيار العودة للعمران اللبناني الأصيل، وهو نفس الخيار الذي سلكته جنوب إفريقيا، خلال تنظيم مونديال 2010، حيث جاءت اللمسة المحلية لثقافة الزولو واضحة للعيان في بناء الملاعب التي جرت على أرضها المباريات. فما بين البناء والمعمار، ثمة فروقات جوهرية عظيمة. ف" بناء مسكن" يختلف عن "تشكيل مسكن" حيث  يغيب البعد الفني والثقافي في الأول، بينما يحضر في الثاني.  فضلا عن كون المعمار لا يحضر فقط  في التشييد العمودي، بل يتعداء إلى التشييد الأفقي ليحضر في تصميم الطرق والشوارع والحدائق على خلفية رؤيا جمالية معينة أو على خلفية إيديولوجية محددة: فالبرتغال، عندما بنوا موكادور/ الصويرة، صمموا الشارعين الرئيسيين للمدينة القديمة على شكل "متصالب" بحيث يبدو هذين الشارعين، عند الصعود إلى السطوح العالية للمدينة القديمة، على هيأة "صليب" حيث يلتقي الشارع الذي يتقاطع فيه باب دكالة في الشمال وباب المنزه في الجنوب  بالشارع الذي يقود إلى باب مراكش في الغرب...

 

مثال آخر، "البيت الأبيض" الأمريكي . فقد صمم "البيت الأبيض" الأمريكي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر  ليكون على رأس ''نجمة خماسية '' ترسمها الشوارع الرئيسية ل"البيت الأبيض" . وليس غريبا أن يصل الحرص بالأمريكان إلى هذه الدرجة من تقديس "النجمة الخماسية" التي صارت أيضا '' شكلا'' و '' اسما'' لمقر وزارة الدفاع '' البنتاغون'' أي "المضلع الخماسي". بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى العلم القومي حيث صارت كل نجمة على الراية  تعادل ولاية أمريكية قائمة الذات. ويرجع بعض الباحثين هذا الاهتمام الكبير بالنجمة إلى كون اغلب زعماء حركة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني "بنائين أحرارا" أي "ماسونيين"، ومن بينهم جورج واشنطون، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية.

 

إن وظيفة المعمار "الظاهرة" هي الجمال بينما الوظيفة الثانية "المضمرة" تبقى هي ترسيخ القيم الاجتماعية السائدة إذا ما هيمن على فلسفة المعمار "بعد تكرسي محافظ" أو رسم قيم جديدة إذا ما هيمن على فلسفة المعمار "بعد تغييري تجديدي". وتتم هذه العملية من خلال نقل هذه القيم  إلى "لاشعور" المتلقي أو المواطن الذي يجاور هذه التشكيلات المعمارية ويعاينها يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة. وللاستعانة بالمعمار في تمرير القيم الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية إلى وعي المواطن، يتم التدرج عبر ثلاث مراحل:

1- أولها، رصد الأنا الأعلى أو القيم الاجتماعية

2- وثانيها، تجسيدها في إنشاءات معمارية وجعلها "شعورا"

3- وثالثها، نقلها عبر التلقي إلى "اللاشعور" لتصبح مولدة للمشاعر والأفكار والسلوك لدى المواطن.

ولذلك، تبقى العمارة  دعامة قوية من دعامات التحضر لجمعها بين "امتاع العين" و"التربية على القيم".

 

 

العمارة دعامة للتحضر والتمدن:

 

التحضر ظاهرة مرتبطة بنشوء المدينة وبتطورها. إنه يرمز لانتقال الإنسان من مرحلة البداوة إلى مرحلة التمدن. لذلك، ترتبط العمارة ارتباطا عضويا بالمدينة وبالتحضر ما دام الإبداع يبدأ عادة  مع فترة الاستقرار والتمدن. فالعمارة، رغم أنها فن، فهي ليست " فنا فرديا": إنها فن يحتاج ل"دعم الجماعة" و"تمويل الجماعة"... ولأن الجماعة في مرحلة البداوة لها "أولويات أخرى" فان أولويات مرحلة التمدن هي "إعطاء صورة مشرقة عن الذات الفردية والجماعية" والعمارة تفي بهذا الغرض. 

 

وتكمن أهمية المدينة  في عاملين: العامل الأول يتمثل في نموها المطرد ديموغرافيا الذي سيصل إلى حوالي ست 6 مليارات نسمة بحلول العام 2020 وذلك بسبب  النمو السكاني السريع والهجرة من الأرياف . أما العامل الثاني فيتمثل في كون المدينة أضحت هي الفاعل الأساسي في التنمية الاقتصادية محليا ووطنيا نظرا لإشعاعيتها وانعاشها للتمدن من خلال دعم حركة الانتقال الاجتماعي من تشتت السكان في البوادي إلى تمركزهم  في المدن وتجاورهم وتقاربهم، ونظرا أيضا لتفعيلها للتنشيط الاجتماعي والثقافي والسياسي من خلال الانتقال من  التنظيم البدوي القبلي المعتمد على الأسرة الممتدة القائمة على سلطة الجد إلى التنظيم الحضري المعتمد على الأسرة النواة أو الأسرة الصغيرة وما يرتبط بها من قيم عصرية كالتربية على الاستقلالية والحرية...

 

لذلك تبقى المدينة "خلاصة" صراع الإنسان مع الزمن لإثبات ذاته وخلوده رغم قصر عمره. إنها الاسم الآخر ل"الاستقرار الحضاري" الذي رسمه الإنسان ثم حققه.  وهي جدلية تأثير  وتأثر متبادلة بين الإنسان والمدينة: فالإنسان صمم المدينة وشيدها على مقاسه؛ والمدينة، بعد قيامها، حدد للإنسان أسلوب حياته وعلاقته بالبيئة وبالآخر، ونظمت له طريقة تفكيره وشكل تعبيره وأسلوب تذوقه للحياة. وفي كل مرة تدخل فيها الإنسان لتغيير معمار مدينته ومعالمها، تغيرت بالفعل ولكنها، مع التغير الجديد الذي طرأ عليها، أنتجت شروطا حياتية جديدة وعادت لتغير الإنسان ذاته في جدلية تفاعلية دائمة.     

 

وهذا ما يفسر التغيرات التي لحقت بالمدينة ما بين الأمس واليوم. فبالأمس، كانت المدينة إما:

- عاصمة سياسية وإدارية واقتصادية فيما صار يعرف اليوم ب"المدينة-الدولة

- أو مركز تقاطع القوافل التجارية

- أو مدنية إقامة الوالي على الإقليم كما كان الأمر أيام دولة الخلافة الإسلامية سواء في عهد الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين...

                                                 

أما اليوم، فقد صارت المدينة بالإضافة إلى المفهوم  القديم مكانا للسكن لمواطنين اختاروا نمطا أرقى من البداوة  كما أضحت مركزا للإنتاج التقني والفني والثقافي والعلمي وليس فقط "مكان عبور" القوافل والسلع والأفراد.

 

تضاعف عدد سكان المدن في المغرب في الفترة ما بين 1960- 1994 أربع مرات ليصبح 13مليون ونصف نسمة. لكن هذا النمو في المجال الحضري لم يوازيه نمو على الصعيد المعماري، إذ لا زال الخوف من النصب التذكارية قائما  ولا زال الخوف من فسح المجال للفنانين لتحويل الفراغات البيضاء على جدران المدن الطويلة  إلى لوحات تشكيلية نابضة بالحياة ومجددة للطاقة في شرايين المواطنين، ولا زالت التجزئات تصمم دون فضاءات خضراء، ولا زالت الساحات الفسيحة والملاعب تسيل لعاب أباطرة العقار والإسمنت المسلح...

 

إن الانتماء للمدينة يشترط أولا رقي الفكر والأخلاق والذوق الجمالي، ومعمار المدينة يفترض فيه أن يجمع هذه القيم كلها. بل إن الوعي بالعمارة كان دائما إما يوازي تأسيس المدن والحواضر أو يسبقها. ولا أدل على ذلك من الحرص الكبير لبناة المدن عبر التاريخ على دراسة المواقع المزمع البناء على أرضيتها المدينة القادمة قبل أي قرار بالشروع في العمل.

 

لذلك، خضع اختيار مواقع المدينة المغربية لثلاث اعتبارات رئيسة:

1- أولها، هاجس الخوف من الهجوم الخارجي  وخير نموذج  هو مدينة شفشاون التي بنتها  السيدة الحرة، أم الملك عبد الله الصغير، آخر ملوك الطوائف بالأندلس. فقد رأت السيدة الحرة المذلة والطرد الجماعي الذي ناله الأندلسيون فبنت، بين جبال سلسلة الريف شمال المغرب، مدينة عالية لمراقبة الطرقات المؤدية إليها من جهة ومحصنة من جهة اخرى بثلاث قمم جبلية خوفا من مطاردة جديدة للأسبان المنتشين بالنصر...

2- ثانيها، الرغبة في الاستقرار قرب البحر والنهر للمتاجرة مع الخارج: لكن معظم المدن المنضوية تحت هذا الصنف بناها الأوروبيون عبر العصور من إغريق ورومان وبيزنطيين وبرتغاليين وفرنسيين مثل طنجيس وموغادور والدار البيضاء وغيرها.         

3- ثالثها، الرغبة في الاستقرار في الداخل وهي سمة مكونين اثنين من مكونات الهوية المغربية: المكون العربي والمكون الأمازيغي اللذان بنيا مدنا من طراز مراكش وفاس ومكناس... وهي جميعها مدن "داخلية" وهو ما  يستدعي أكثر من وقفة تأملية لكن ربما كان الجواب متضمنا في المعمار الأصيل للبيت المغربي العتيق...

 

 

معمار المدينة مفتاح الشخصية المغربية:

 

أهم ما يميز المدينة المغربية القديمة هو السور الذي يحيط بالمدينة من كل جوانبها لحمايتها من المغيرين لصوصا كانوا أو جنودا معادين وغالبا ما كانت التحصينات والدوريات العسكرية تنظم فوقه. وتتخلل السور أبواب تفتح في ساعات مبكرة في الصباح وتقفل 'بعد عصر'' كل يوم. لذلك، كان البدو من المتاجرين مع سكان المدينة القديمة يلاحظون حركة غير عادية تطرأ على زبنائهم المدينيين فاعقدوا بأن أهل الحضر ''يجنون بعد العصر'' وفاتهم أن يعرفوا بأن أبواب سور المدينة إذا أغلقت "بعد العصر" دون المتأخرين من سكان المدينة، فإنها لن تفتح إلا مع طلوع شمس صباح الغد مع ما يتطلبه البقاء خارج سور المدينة لليلة كاملة من مخاطر عظيمة أقلها الاعتداء الجسدي.

 

وقد عرفت المدينة المغربية القديمة تغيرات جذرية مع دخول الاستعمار في العشرية الثانية من القرن العشرين. فعندما دخل الاستعمار الفرنسي والإسباني إلى المغرب، لقي مقاومة شديدة على كافة المستويات. وهو ما جعله يفكر في بناء مدن حديثة تجاوز المدن العتيقة درءً للاحتكاك مع السكان الأصليين من جهة ومن جهة ثانية لتوفير إمكانات العيش الراقي للوافدين من المعمرين.

 

تجربة '' المدن الجديدة'' تبقى في نهاية المطاف مجرد "أحياء جديدة'' تجاور ''أحياء عتيقة تحمل اسم ''المدينة العتيقة أو "القصبة''. ومنها  فاس القديم وفاس الجديد، تازة العليا (المدينة القديمة) وتازة السفلى (المدينة الجديدة)...

 

بعد تجربة'' المدن الجديدة'' أو ''الأحياء الجديدة'' التي عرفت بنمطها الغربي وبشوارعها العريضة ورصيف الراجلين الفسيح وساحاتها الرحبة وحدائقها العمومية وتنظيم الأحياء إلى أحياء تجارية وأحياء إدارية وأحياء سكنية عامة وأحياء سكنية فخمة... بدأ المعمر تجربة ثانية: ''تجربة المدن المستقلة الجديدة'' وهي مدن جديدة عرفت بموقعها الاستراتيجي مثل مدينة Petit – Jean ( أو سيدي قاسم) التي أضحت ملتقى السكك الحديدية التي تربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، ومدينة القنيطرة، وخريبكة واليوسفية الغنيتين بمناجم الفوسفاط ...

 

بعد ذلك، جاءت المرحلة الثالثة وبدأ التفكير بتحديث مناطق وإغفال أخرى فيما صار يعرف ب "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع". لكن المعمار المغربي، في الحالتين، ظل معبرا عن الشخصية المغربية وعن التحولات التي طرأت على الهوية المغربية من خلال منطقتين سكنيتين كبيرتين داخل كل مدينة مغربية: المدينة العتيقة والمدينة الجديدة. فالمدينة العتيقة  أو "القصبة" التي يقيم  فيها  غالبا الحرفيون والتجار الصغار وتسود فيها الأزقة الضيقة. أما المدينة الجديدة فتقيم فيها طبقة متوسطة متميزة نسبيا وطبقات اجتماعية أعلى اقتصاديا وتسود فيها الشوارع العريضة والساحات والحدائق العمومية...

 

لكن، بعد المدينة والحي، يبقى البيت هو مفتاح الشخصية المغربية، والتجول بين أرجائه هو استكشاف للهوية المغربية في شقها الصامت.

                       

 

التصميم الداخلي للبيت المغربي:

 

المرأة والبيت كانا دوما مترادفين تحكمهما نفس ضوابط الصّوْن والذّوْد عن العرض. فإذا كانت هندسة المعابد قد اقترنت برمز "الذكورة" كما تدل على ذلك المآذن في كل ديانات الأرض، فإن هندسة البيوت قد اقترنت برمز "الأنوثة" سواء في المعمار التقليدي أو المعمار العصري. والتصميم الداخلي والخارجي للبيت المغربي بنوعيه، العتيق والحديث، لم يخرج عن هذا التصنيف.

 

فالبيت التقليدي يستحضر في هندسته الاحتراس من "الرجل الغريب". ولذلك جاءت نوافذه صغيرة للغاية تحول دون التلصص على ما يجري بالداخل، كما أن واجهة البيت العتيق تبقى عالية تمنع تسلق المتطفلين في غياب رب الأسرة (= "مول الدار").  أما لون الواجهة فكسائر واجهات بيوت المدينة التي لا تبحث عن التفرد والتمايز ما دامت الثقافة التقليدية التي تجمع الجمع هي "ثقافة الإجماع" و"نبذ الاختلاف". أما الباب الخارجية للبيت المغربي العتيق فباب صغيرة تفرض بالضرورة "الانحناء والاحترام على الداخلين" من أول وقفة على العتبة.

 

بينما الأبواب الداخلية كبيرة وعالية ومقوسة ومنقوشة... لكن اهم مفاتيح البيت العتيق يتجلى في طقوس استقبال الضيوف الذين يدخلون من "باب آخر" غير الباب الرئيسي للبت كي لا يرى الضيف النساء، وقد يدخلون أيضا من الباب الرئيسي لكن فقط للمرور نحو "أقرب غرفة" من غرف البيت كي لا تتقاطع نظرات الضيف مع نظرات نساء البيت.

 

أما في البيت المغربي العصري، فيتراجع الاحتراس من "الرجل الغريب"       لفائدة الانفتاح على كل الناس والتواصل مع الجميع. لذلك، جاءت هندسة البيت المغربي الحديث بنوافذ كبيرة وهدفها ليس فقط التهوية بل الرؤية أيضا. كما أن واجهته تظل أقل علوا مسايرة للتوجه العام في العمارة الحديثة نحو البناء العمودي لتوفير المساحات على الأرض لمشاريع أخرى، فيما لون واجهة وشكلها يختلف عن باقي واجهات بيوت  المدينة. أما الباب الخارجية فتبقى متساوية مع الأبواب الداخلية مع خاصية هامة وهي كون الباب الخارجية أضحت مزينة ومنقوشة وأحيانا شفافة تظهر ما بالداخل، داخل البيت. بينما يتم استقبال الضيوف مباشرة من الباب الرئيسي نحو غرفة الاستقبال في قلب البيت وغالبا ما يستقبلون بين أفراد العائلة من أهل البيت.

 

لكن إذا كانت الذكورة، صفة وخطابا، قد لازمت المعابد منذ القديم، وإذا كانت الأنوثة صفة قد لازمت البيوت والمساكن منذ استقر الإنسان، فإن خطرين قادمين يحدقان بهما معا، بيوتا ومعابد. الخطر الأول إيكولوجي قادم من الجنوب وهو "التصحر" الذي أوشك أن يمحي مدنا كانت في ما مضى عواصم ذائعة الصيت كمدينة "تومبوكتو" المالية ولو أن سلسلة الأطلس الجبلية تقف لحد الساعة وجهه. أما الخطر الثاني، فما عدا الإرادة الإنسانية الصلبة في الحفاظ على المدينة وتطويرها، فلا شيء يمكنه الوقوف في وجهه. وهذا الخطر هو خطر "ترييف المدينة".

 

      . 

التّرْييفُ خَطرٌ يُحدّقُ  بالمدينة المغربية وبالمشْروع التّحْديثي

 

إن رصد حركة التغير التي تحدث لأسلوب التعمير ونمط العمارة في المدينة، أي مدينة، دليل على المستوى العام للذوق الجمالي والمستوى الثقافي والاجتماعي لساكنة المدينة. فالمشكلات العمرانية الراهنة تبقى هي الازدحام في بعض المدن الكبيرة، تنامي أحزمة الفقر حول المدن الرئيسة،  تدهور البيئة وتلوثها...  لكن يبقى أحدثها وآخرها هو تهاوي قاعات المسارح ودور السينما بأعداد كبيرة سنويا تحت معاول الهدم بهدف تحويلها إلى بقع أرضية صالحة للتجزئة والبناء والبيع والشراء. فمن أصل ثلاثمائة قاعة سينما ومسرح تركها "الاستعمار" الفرنسي والإسباني قبل رحيله عن البلاد، لم يبق منها غير مائة وخمسين قاعة في عهد مغرب "الاستقلال" فيما العروض الثقافية والمعارض الفنية تستأجر قاعات أندية الموظفين وقاعات الاجتماعات في المقرات الحزبية كشكل من أشكال اللجوء الثقافي..

 

فالعمارة والتعمير تعكس بصدق المناخ السياسي في البلاد تماما كما تعكس القيم الاجتماعية:

         - فالبناء العشوائي دليل على  التدبير العشوائي للتعمير وغير التعمير،

         - وضيق الأرصفة  مع استحواذ الباعة المتجولين على المتبقي من مساحاتها دليل صارخ على تغييب الإنسان من  المشاريع التنموية،

         - والغش في البناء  دليل صادق على درجة ضعف التشريعات الزجرية لحماية المواطن- المستهلك،

         - وغلاء مواد البناء  دليل واضح على الإجهاز على الحق في السكن... 

 

وإذا كانت العمارة فنا جميلا يُراد من خلاله جعل الحياة المدينية في عين الرائي  أكثر جمالا، فإنها أيضا فن جميل يراد من خلاله تجسيد القيم الاجتماعية المتحضرة. كما أنها تعكس المناخ السياسي العام بالبلاد ولكنها، فوق كل ذلك، ترصد موقع الدولة والمجتمع معا في الدورة الحضارية ليشير المؤشر إلى فترة الازدهار أو فترة الانحطاط.

 

ففي فترة ازدهار الغرب الإسلامي، كان في غرناطة القرون الوسطى ثلاث مائة 300 حماما عموميا  في الوقت الذي كان في قصر فيرساي الفرنسي، الذي بني في القرن السابع عشر، يأوي مائة 120 وعشرين شخصا حمامان اثنان فقط، بمعدل حمام واحد لكل ستين 60 فردا يتناوبون عليه خلال اليوم الواحد.  وهذا ما يفسر الميل المبكر للارستقراطية الفرنسية للعطور!على حساب الاستحمام الذي كان طقسا يوميا في غرناطة وباقي مدن الأندلس.

              ففي فترة الازدهار،  تنشط المرافق العمومية وتتوالد من حدائق عمومية وساحات عمومية ومكتبات عمومية وحمامات عمومية وهو ما حدث في عهد الإغريق حيث كان المواطنون الغريق يساقون سوْقاً إلى المسارح لمشاهدة "عبقرية" الإغريق في المسرح. كما نشطت  المرافق العمومية في عهد الدولة الأموية والعباسية وتكرر الأمر في أوروبا في عصر النهضة الأوروبية ثم بعد ذلك في عهد الميجي في اليابان...

 

أما في فترة الانحطاط، فتدخل المرافق العمومية إلى داخل البيت إذ تغيب الحدائق في المدينة ولكنها تنتعش وراء أسوار البيوت، وتغيب المكتبات العمومية ولكنها تظل حية داخل غرف البيوت... وهو ما يعطي الانطباع بأن الانحطاط مرحلة تسبق الانفلات الأمني الذي يؤسس للفوضى وهو ما يعجل بإدخال ما يفترض أن يكون عموميا إلى البيت. كما أنها مرحلة تتزامن مع زحف الترييف على المدينة. فالانحطاط المجتمعي العام وترْييف المدن وتَريُّفها هما  وجهان لعملة واحدة.

 

 

على سبيل الختم:

 

تقترن العمارة اقترانا عضويا بالمدينة وبمرحلة التمدن. لذلك كان التقليل من أهميتها يؤدي عادة إلى "ترييف المدن" بكل ما تعنيه هذه العبارة من تعطيل لكل الوظائف المنوطة بالمدينة لجرّ قاطرة التنمية ودفع التغيير الاجتماعي إلى الأمام وتغيير نمط العلاقات بين فئات المجتمع وبروز قيم متمدنة عقلانية كالحرية والمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان...

 

إن الفرق بين المدينة والبادية يتمثل في المرتبة التي توضع فيها العمارة في " سلم الأولويات". ولذلك، فإن نمو "المدينة المتمدنة" يبقى اتجاها عاما وطبيعيا نحو " التحديث العام" نظرا لكون المدينة هي ظاهرة المجتمع الحضرية لكن "ترييف المدينة" يبقى خصما لذوذا واتجاها نقيضا يدفع بمسار المدينة إلى الوراء نحو "البداوة" ونحو "الردة" بمفهومها الحضاري.

 

 

الرجوع إلى قائمة الأبحاث في الفن

 

 

خريطة الموقع

 

 

بَيَانَاتُ أدبية

"المدرسة الحائية"

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

تقديم أعمال الأصدقاء

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

شَهَادَات فِي الإبْدَاعِ وَالتّلَقي

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

الألبوم المفتوحُ

أدب الطفل

رهانات الأغنية العربية

روايات

مجاميع قصصية على الخط

مجاميع قصصية مشتركة

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

مترجمات

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

 

 

 

ALL RIGHTS RESERVED

 

 e-mail : saidraihani@hotmail.com

 

<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-arts-index.htm</title>

<meta name="description" content="أبحاث في الفن"><meta name="keywords" content="فن، فنون، تشكيل، نحث، سينما، سينيما، رقص، عمارة، مسرح، موسيقى، أغنية، غناء">