رَيْحَانِيَاتٌ

 

 

أنقر على الصورة لتكبير غلاف الكتاب

 

"أربعون 40 حوارا مع مُحَمّد سَعِيد الرَّيْحَانِي"

 

سلسلةُ حوارات شاملة أجراها الشاعر المغربي أنس الفيلالي

 

 

 

 

في ما بين المثقف والموظف

 

 

 

 

سؤال: من بين التدقيقات التي أغنيت بها الثقافة والفكر العربيين فشكلت بذلك قيمة مضافة لا يستهان بها تلك التي فصلت فيها ما بين مفهوم المثقف والمفاهيم المجاورة له فميزت بين المثقف والمتمدرس والموظف وبين المبدع والناقد والأكاديمي والفاعل الجمعوي وبين الكاتب المنشور له والكاتب غير المنشور له أو "الكلايمي" بتعبيرك تفصيلا بلغ درجة البلاغة. ومن الأكيد أنها ستجد طريقها نحو الخطاب الفكري والنقدي المغربي والعربي دون طويل انتظار وسيستعملها حتى من تعرضت لهم بالدراسة والتفصيل من موظفين ومتمدرسين و"اكلايمية" وغيرهم.  لنبدأ أولا بالسؤال عن جدوى هذا التفصيل.

 

جواب: البعض يعتبر ما آلت إليه الأمور في بلداننا العربية نتائج طبيعية من تداعيات الانخراط في العصر المادي، لكنني أرى الأمور من زاوية مختلفة. فالأمية والفقر وتدني المستوى التعليمي لمن استفاد من التعليم أدى إلى اعتبار الموظف هو سقف الخدمة الممكنة وسقف المعرفة المتاحة...

 

وبذلك، صار كل إمام بحكم تواجده في صدارة المصلين مفتيا، وكل محام بحكم مهنته مناضلا حقوقيا، وكل قاض فاروقا عادلا، وكل طبيب عمومي عالم أحياء، وكل رئيس دولة أو ملك زعيما  وقائدا، وكل موظف في قطاع الثقافة مثقفا، وكل معلم موسوعيا، وكل أستاذ مادة فلسفة في التعليم الثانوي فيلسوفا، وكل أستاذ مادة الرياضيات في التعليم الإعدادي عالما رياضيا، وكل أستاذ مادة الأدب أديبا، وكل أستاذ مادة التاريخ مؤرخا... بحيث يغيب الوعي بأن هؤلاء الموظفين هم مجرد أجراء ومأجورين لدى الدولة يدينون بالولاء الشهري للشباك الأوتوماتيكي ولا علاقة لهم بما ينسب إليهم من صفات تتجاوز "حرفتهم" وأن كل ما يصبون إليه هو "طرف الخبز". فمتى ضمن "طرف الخبز"، اطمأنوا وارتاحوا. ومتى هدد "طرف الخبز"، قلقوا واضطربوا. وبذلك، فمعيارا "الموقف" و"التطوع" اللذان يميزان المثقف عن غيره لا يتوفران في الموظف الأجير...

 

 

سؤال: ما بين المثقف والموظف، كانت الغلبة في تاريخنا العربي للموظف حتى حين يتعلق الأمر بالأدب والفنون. فقد كان الفقهاء هم فقهاء السلطة، والشعراء هم شعراء البلاط، والخطاطون هم الفنانون الذين جالسوا السلاطين... فلم ينج من الأمر سوى شعراء الجاهلية وخصوصا "الشعراء الصعاليك". لماذا اقترن الأدب العربي عموما والشعر  خصوصا بالمنصب؟

 

جواب: يؤرخ المؤرخون للتاريخ العربي بمراحل حكم الملوك: العصر المرابطي، العصر الموحدي، العصر النابوليوني، العصر الفيكتوري..

      

وبالمثل يُصَنّفُ  الباحثون في الأدب ومؤرخو الأدب المبدعين على خلفية المنصب: الملك امرؤ القيس وشاعر النبي حسان بن ثابت وجليس الملك أبو الطيب المتنبي والوزير نزار قباني...       

      

وفي العصر الحديث، عصر انفصال السياسة والدين عن الأدب، برزت للسطح ظاهرة جديدة: هيمنة الوظيفة والمنصب على الأدب...

 

سؤال: من هو المثقف إذن؟

 

جواب: المثقف هو فاعل حر فكريا ومتطوع عمليا. فالحرية والتطوع هو ما يميز المثقف الحق. وإذا كانت الرقابة والتضييق على الحريات قائمة في العالم العربي، وإن بأشكال متفاوتة، فعلى المثقفين تحمل مسؤولياتهم بإعلاء  شأن الحرية وقيم الشجاعة والجرأة بشكل صوفي يترفع عن المصلحة والمنصب والامتيازات...

 

ويؤسفني وأنا أتابع في أزمنة "التوافق" بين السلطة والقوى السياسية، تركيز الرهان على تحويل الشريك السياسي إلى "كلب حراسة" شرس لدرايته التي تفوق دراية السلطة بما يجول في خاطر الرفاق والأهل والجيران ممن يشكلون في نهاية المطاف "الشعب".

 

لكن الرقابة التي تتربص بالمثقف رقابات بصيغة المتعدد: رقابة نظامية ورقابة جماهيرية ورقابة ذاتية وهي الرقابة الأخطر من بين الثلاثة.

 

 

سؤال: في ظل مجتمع تهيمن عليه الوظيفة والموظفون، كيف ترى المبدع العربي عموما والمغربي خصوصا؟

 

جواب: ما أعجب له في بلداننا العربية هو عمل المبدع العربي "المسكين" الذي يشتغل ك '' متطوع'' في مجاله ويتعرض ''للتضييق والمضايقة''. ومع ذلك، فهو عندما يكتب فإنه يكتب عن ''الضفدعة الذهبية'' وعن ''المكنسة البلورية'' و''الزليج الفردوسي'' وعن قضايا وتيمات وصور تثير أكثر من السخرية. ربما هي تثير الغثيان. ولذلك، فلا عجب أن يكون المنتوج الأدبي في بلادنا بلا قراء ...

 

أتساءل كيف لمبدع ينشر أعماله بدعم مالي ذاتي ويوزعها بنفسه على المكتبات ويروج لها بنفسه على الصحف الورقية والمواقع الالكترونية ومع كل هذا فهو لا يقول شيئا في نصوصه: كل حرصه مركز على مهادنة هذه الجهة وإرسال رسالة اعتذار مسبق إلى تلك وتذكير الجهة الثالثة بصلاح النية...

 

المبدعون العرب لا يميزون بين المبدع المدعوم من الخلف الذي يبيع رأيه مقابل الدعم وبين المبدع الحر الذي يدعم نفسه مقابل احتفاظه بحريته في القول والفعل والحياة. إن أفضل الطرق للوصول  إلى القراء هي أن يقول المبدع رأيه وأن يكون ذاته.

 

إن أقصر الطرق إلى النجاح والخلود هي تلك الطريق التي يخالها الكثيرون ''الطريق الأصعب''. لذلك، على المبدع ألا يخاف من المواجهة: فالكتاب الكبار على مر التاريخ لم يصيروا كبارا إلا بالمواجهة وبتحمل المسؤولية في تلك المواجهة. أما "الزواحف" من عشاق "الحلول السهلة" ممن يرومون "العلاقات"  لإدراج نصوصهم في المقررات الدراسية أو ضمان نافذة على صفحات جريدة الحزب يؤبد من خلالها وهم حضوره،  فلمزابل التاريخ..

 

سؤال: الثقافة والتنمية وجهان لعملة واحدة.  متى تتقوى الثقافة ومتى تضمحل؟

 

جواب: حين يتقوى دور الموظف، تضمر سلطة المثقف ويصبح معها فاعلا هامشيا. وحين يتقوى دور المثقف، تضعف سلطة الموظف ويصبح معها تابعا لا متبوعا. ومع تأرجح ميزان القوى بين الموظف والمثقف، تتأرجح موازين القوى بين "هاجس الأمن" و"إرادة التنمية".

 

فحين يتقوى الهاجس الأمني، تضمحل إرادة التنمية. فالهاجس الأمني هو إرادة للحفاظ على موازين القوى. إنه هو الوجه الظاهر للإحساس بدنو الانهيار واقتراب النهاية. أما حين تتقوى إرادة التنمية، فيفتر الهاجس الأمني. 

 

وعليه، فإرادة التنمية هي المرادف الأنسب للإقلاع الحضاري العام التي يبقى الإشعاع الثقافي وجهه المضيء...

 

سؤال: ما بين العمل الثقافي والعمل المهني، ما هي أوجه التقاطع والانفصال؟

 

جواب: العمل الثقافي عمل تطوعي يشترط الحرية في المنطلق والغاية، مرجعه ثقافات الشعوب، والمتلقي فيه مواطن حر كريم، أما غايته الأولى والأخيرة فهي تحرير الإنسان.

 

أما العمل المهني، من الجهة الأخرى، فعمل مأجور يشتغل تحت سلطة التفتيش والمراقبة والتتبع، مرجعه المذكرات والمراسيم والظهائر والتعليمات والأوامر، والمتلقي فيه موظف يكافأ ويعاقب في مرتبه، أما الغاية العليا فهي السير العادي للمؤسسة...

 

والتمايز القائم  بين "المثقف" و"الموظف" على مستويات أشكال العمل يتعزز أيضا على مستوى الغايات والإستراتيجيات. إنه تمايز ما بين دخول التاريخ الذي هو هاجس المثقف وبين الوفاء للوظيفة والراتب الشهري والمكافآت الذي هو هاجس الموظف.

 

فبينما يشترط دخول التاريخ القياس بالعمر التاريخي والإيمان بالعمل وبإثبات الفعل لدخول التاريخ وهو ما يعطي الأسبقية للمثقف، يضع خط الموظف والوفاء للوظيفة شروطا مغايرة مثل: القياس بالعمر الفردي، المصلحة، الإدلاء بالشهادات لولوج الوظيفة...

 

علاوة على ما سبق، فالمثقف ينجز ما يؤمن به وما يفكر فيه وما يتخيله. ولذلك، فهو سعيد في شقائه لأنه يحقق ذاته في عمله ومجهوده. أما الموظف فينجز ما يطلب منه، ولذلك فتحقيق الذات ليست أولوية من أولوياته...

 

سؤال: ما يحدث في العالمين الغربي والعربي، هل هو إقالة للمثقف أم استقالته؟

 

جواب: "إقالة المثقف" أو "استقالته" لدى الغرب يوازيها "قتل المثقف" في بلداننا العربية الممتدة من الماء إلى الماء. فبينما أجمع المثقفون الغربيون بعيد الثورة الطلابية عام 1968على إنهاء التاريخ للتفرغ للبناء الديموقراطي بكافة تجلياته وفي كل المجالات، أجمع الساسة العرب الخارجون  في نفس السنة من هزائمهم المتلاحقة على إنهاء دور المثقف وإلغاء دور الفلسفة وتوقيف دور العقل واستبدال دور المثقف بدور الموظف...

 

سؤال: ما هي الخلاصة المركزة حول الوظيفة التاريخية للمثقف والوظيفة المؤسسية للموظف التي يمكنك صياغتها؟

 

جواب: المثقف ثائر بالفطرة على الواقع Established Order منتصر بالضرورة للمثال Ideal Order بينما الموظف منتصر للواقع وغير مطمئن للمثال. ولذلك، كانت الأنظمة السياسية، عبر التاريخ، تختار المثقف في "أزمنة الشدة والمحنة" وتعتمد عليه في الدفع بطوق النجاة ولكنها في أزمنة الرخاء حين "تنهي التاريخ" و"تميت الإنسان" و"تكنس الفلسفة والإيديولوجيا"، فإنها تختار الموظف...

             

العودة إلى صفحة الحوارات الأدبية

 

خريطة الموقع

 

دِفَاعًا عَنِ الْقِرَاءَةِ

بَيَانَاتُ أدبية

"الحاءات الثلاث" مضامين الغد

 روايات

 حِوَارَاتٌ مع الرَّيْحَاني

 حِوَارَاتٌ من الشرق والغربٌ

المَكْتَبَةُ الإِلكْتْرُونِيَةُ

درَاسَات سِيميَائِيَةُ للأسماء

رهانات الأغنية العربية

السيرَةُ الذَّاتِيَةُ

أدب الطفل

مجاميع قصصية على الخط

الألبوم المفتوحُ

تقديم أعمال الأصدقاء

مجاميع قصصية مشتركة

ENGLISH

FRANCAIS

الصفحة الرئيسية

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

saidraihani@hotmail.com

<title>http://www.raihantat.com/arabicversion-interviews2-index.htm</title>

<meta name="description" content=" "في حضرة الصمت والاحتجاج"، سلسلةُ حوارات شاملة من أربعين َ لقاءً صحفياً مع محمد سعيد الريحاني أجراها الشاعر المغربي أنس الفيلالي

<meta name="keywords" content=" "في حضرة الصمت والاحتجاج"، حوارات صحفية، لقاءات صحفية، أدب، فكر، فن، سياسة، محمد سعيد الريحاني، أنس الفيلالي">