مشاعل القصر الكبير
Flambeaux de Ksar
El Kébir
Torches of Ksar El Kebir
من "هسبريس" إلى
"أوبيدوم نوفوم"
إلى "القصر الكبير"،
حوار مع محمد سعيد الريحاني أجراه أنس الفيلالي
سؤال: قدماء الإغريق نسجوا الأساطير عن مدينة القصر الكبير التي صارت عندهم هي "هسبريس". فما الذي تمثله لك هذه المدينة، أنت؟
جواب: مدينة القصر الكبير هي أولا مَهْدُ طفولتي. ففي هذه المدينة أطلقت
صرختي الأولى. ولأن عائلتي كانت تكتري البساتين وتتاجر في غلاتها ومحاصيلها من
حوامض وتين وزيتون وقصب وغيرها، فربما كانت البرتقالة الذهبية، التي طالما
حلم قدماء الإغريق بقطفها من هسبريس قبل آلاف
السنين كما تشهد على ذلك أساطيرهم، أول ما رأيت من فواكه الأرض وأول ما أحببت من
القطوف الدانية حين كانت أختي البكر تحملني أيام عطلها
المدرسية على ظهرها نحو البستان على العدوة الأخرى من نهر "اللوكوس" الذي كنت أحب دوما عبوره راكبا على ظهر
أحد أقاربي ممن كانوا يوفرون على صبي في مثل سني وقع الصدمة الكهربائية الذي تصيب بالضرورة
عابري النهر حين تلامس سيقانهم العارية التيار المائي البارد خاصة في فترات الصباح
الباكر...
حتى إذا ما عبرنا النهر ووصلنا
ضريح "سيدي حسن الغريب"، تبادلنا التحايا مع قوم غرباء، مع إغريق من جيل مغاير
بسحنات غربية ويتكلمون اللغة الإسبانية ويجلسون كل صباح لتناول الفطور
على جانبي طاولة طويلة يحوم حولها الإوز الأبيض الكبير والديكة الرومية والطواويس
بينما تطل الخنازير والأبقار السمينة من الإسطبلات وهي تمضغ ليل نهار ما جادت به
الشاحنات من تمور وعنب وما يشتهيه الإنسان المغربي العامل في تلك الإسطبلات قبل الخنازير
وقبل الأبقار...
كان أنطونيو لوبيث الإبن وزوجته ماريا
لوبيث هما من يتصدر الطاولة دوما ويحف بهم باقي
أفراد العائلة كخوسيه وإستيبان وغيرهما ممن
كانوا يساعدونه في إدارة أمور مزرعته المترامية الأطراف، مساحات مشجرة لا يحدها
البصر زرعت كلها برتقالا ومندرينا وليمونا وغيرها من أنواع الحوامض التي
عشقها الإغريق وسلالاتهم من الأوروبيين في هذه المدينة وضواحيها. حتى إذا ما جاءت
سياسة "المغربة" في منتصف السبعينيات واسترجعت الدولة المغربية
آخر المزارع التي كانت بحوزة الإسبان من المعمرين وفوتتها إلى الخواص من المغاربة،
بدأ اجتثات أشجار البرتقال الطبيعي من هسبريس لتحل محلها مزارع الفلفل وغير الفلفل لكن أحدا
حتى الآن لم يستطع اجتثات البرتقال الذهبي من جنة
الجنان وفردوس الفراديس، من هسبريس، الأسطورة
العالقة إلى الأبد في المخيلة الإنسانية.
سؤال: مدينة القصر
الكبير ظلت عالقة في المتخيل الأدبي الإنساني من خلال الأسطورة
الإغريقية التي خلدتها وخلدت فيها لكن المدينة ظلت أيضا عالقة
في التأريخ العسكري والسياسي الدولي من خلال معركة "وادي المخازن". ما الذي تمثله لك معركة
"وادي المخازن"؟
جواب: من
وجهة نظري، تبقى معركة "وادي المخازن"
رمز الفرص الضائعة في تاريخ المغرب. فبعد محو الدولة البرتغالية من الوجود عقب
الهزيمة النكراء بمعركة "وادي المخازن"
والتأشير على أفول الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية وانحسار نفوذهما على
العالم، تقدمت "الملكة العذراء"،
إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا، بمقترح إلى
السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي تدعوه
فيه إلى إقامة حلف استراتيجي بين المملكتين، المملكة المغربية
والمملكة البريطانية، لتقسيم ممتلكات
الإمبراطوريتين الإيبيريتين وإعادة تقسيم عالم القرن
السابع عشر. لكن السلطان السعدي رفض لأسباب نجهلها حتى الآن: إما لأنه انتصر في
معركة لم يكن يحلم بالنصر فيها، أو لأنه أراد الحفاظ على مكسب كبير حققه، أو لأن طموحه كان التوسع جنوبا في اتجاه إفريقيا
السوداء تاركا لإنجلترا المجال لبناء
"الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"
والتي عمرت بعد ذلك الحين لأربعة قرون من الزمن.
لهذا
كانت معركة "وادي المخازن" في عيون
المغاربة رمزا للفرص التاريخية الضائعة التي لم تتكرر في تاريخ المغرب.
سؤال: اليوم، البعض يسمي
مدينة القصر الكبير إسطنبول المغرب.
جواب: حتى سنوات قريبة
خلت، كان سكان مدينة القصر الكبير يتباهون بكون المدينة هي ثان مدن المغرب
من حيث عدد المساجد بحيث سماها البعض بدافع الفخر "إسطنبول المغرب".
أما اليوم، فيحق لساكنة القصر الكبير أن يتباهوا بكون مدينتهم منبت
الأدباء والفنانين والباحثين والنقاد والمترجمين الذين تركوا بصماتهم واضحة
على صفحة الفن والثقافة والعلوم وطنيا وعربيا. فرغم أن ساكنة المدينة لا تتعدى المائة
والعشرين ألفا لكنها راكمت أسماء من العيار الثقيل في عدة مجالات كالقطب الصوفي مولاي
علي أبو غالب والشاعر الخالد محمد الخمار الكنوني والملحن الأسطورة عبد
السلام عامر واللائحة طويلة...
سؤال: الكثير من نصوصك،
كما هو مبين في مجاميعك القصصية المنشورة، مذيل بتاريخ تحرير النص ومكانه. ويبدو
أنك كتبت أغلب نصوصك في مدينة القصر
الكبير؟
جواب: كتبت لحد الساعة خمس
مائة نص قصصي بين قصير وقصير جدا بالإضافة إلى أزيد من مائتي مقالة
وأربع روايات وسيرة ذاتية مصورة وثلاث يوميات... لكنني لا
أستطيع الجزم حول مكان تحريرها. فعلا، كتبت نصوصا بعينها في مدينة القصر الكبير
ولكنني كتبت أيضا نصوصا أخرى في غيرها من المدن المغربية. فالإبداع حالة
ذهنية: حيثما حضرت هذه الحالة الذهنية، حضر الإبداع وبدأ تحرير النصوص...
سؤال: ما الذي تمثله لك مدينة القصر الكبير؟
جواب: مدينة القصر الكبير
بالدرجة الأولى هي مهد الطفولة فذاكرة الطفولة لا تخزن صُوَراً في غير
فضاءاتها. وهي بالدرجة الثانية الأم بكل ما تحيل عليه هذه الكلمة من
طمأنينة. وهي، بعد ذلك، مُعَلّمَةٌ نموذجية للإصرار على البقاء رغم
التهميش ورغم الإقصاء...
سؤال: وماذا استفدت من علاقتك
بمدينة القصر
الكبير؟
جواب: مدينة القصر
الكبير هي مغرب مصغر. ما كان لا بد لي أن أعرفه عن المغرب، عرفته في هذه
المدينة ومن خلالها. فقد كانت الحياة بالنسبة لي في هذه المدينة الصغيرة استبيانا
إذ يمكن أن تطرح أسئلة ويصلك الجواب باسرع وقت مما
تتصور. وهذا ما لا يمكنه أن يتحقق في مدن كبيرة حيث يتشتت الجهد ويضيع التركيز
وتُفْرَضُ البداهة والتطبيع مع كل شيء...
سؤال: أعطت مدينة القصر الكبير العديد من الكتاب
والشعراء والفنانين والرياضيين. فماذا أعطتك أنت؟
جواب: أنا رجل يؤمن
بضرورة تحمل الإنسان مسؤولياته وصنعه لقدره بيده. وربما لمست هذا في كل حواراتي
وأعمالي الفكرية والإبداعية وحتى في بياناتي الأدبية حيث الدعوة واضحة لكتاب القصة
القصيرة بالتحول إلى الكتابة بالتيمة القصصية وباختيار التيمات واختيار عناوين النصوص واختيار مواضيع
تلك النصوص وتقنياتها قبل قرار الجلوس إلى المكتب واستدعاء المقدرة الكتابية... إذ
ما معنى أن يكون الإنسان كاتبا وهو لا يتحكم حتى في تيمات
نصوصه؟
وعليه، فأنا أعتبر
كل ما مُنِح وما لا زال يُمْنح لي من فرص وأدوات وغيرها هي رساميل قابلة للصرف
والمبادلة والتداول حتى ولو كانت ظلما من ذوي القربى أو جورا من إدارات
بلدي الصغرى والكبرى من أسفلها إلى أعلاها. وبهذه الطريقة، حولت السلاح الذي
نوى غيري هدمي به إلى سلاح معكوس يؤدي نتائج معكوسة لمن نوى الإساءة لي بحيث يصبح
عامل تقوية لوضعي ودفعة ترفع من سومتي أسهما فوق
أسهم...
لا يمكنني لوم مدينة
على ما لم تقدمه لي. ليست المدينة هي التي تقدم وتؤخر، تمنح وتحرم وإنما المسؤول عن ذلك هو الإنسان حين
يقدم على فعل الظلم وهو مستقل، أو هي المافيا إذا تنظم الإنسان ضمن جماعات
الفعل الليلي حيث يعقب الضرب الفرار والاختفاء، أو هي الطبقة الاجتماعية
حين يتحول الفعل الليلي للجماعة الظالمة إلى فعل نهاري لا يخشى
القائمون به لومة لائم...
سؤال: كيف ينظر محمد سعيد الريحاني إلى واقع
الثقافة بالمغرب وبمدينة القصر الكبير تحديدا التي هي مسقط رأس شاعر حدّث
القصيدة المغربية وهو محمد الخمار الكنوني، ومدينة الروائيين كمحمد
أسليم، والبيت الأول لكتاب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا كمحمد سعيد
الريحاني؟
جواب: من مبدعي المدينة
من رحل وفي قلبه غُصَّة على نُخَبِ مدينته التي حاربته في آخر أيامه حتى أنه كان
وهو على فراش الموت يوصي ببقاء أبنائه في مدينة الرباط وعدم العودة إلى
القصر الكبير، ومنهم من هاجر ولم يعد يربطه بها غير الإشارة إليها كمكان الميلاد،
ومنهم من تعمل كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في المدينة على التضييق عليه في
حيّه ومقرّ عمله لدفعه للهجرة، ومنهم من ينتظر...
العداء للثقافة يسميه المتمدرسون
"كسلا" لكنه أكبر من ذلك بكثير. فللكسل أسباب "مادية
محضة" كالجوع والتعب وغيرها أما العداء للثقافة فأسبابه "غير
مادية" ما دامت تتعلق تعلقا مباشرا ب"التربية". إن من
يعادي الثقافة يتربى، بكل بساطة، على معاداة الثقافة ومعاداة أهلها.
قبل سنوات، ضمن نصوص أضمومة "موسم الهجرة إلى أي مكان"، كنت قد
أفردت لهذه الفئة، ممن يعتبرها البعض "كسالى" ويعتبرها البعض
الآخر "أعداء للثقافة"، نصا قصصيا بعنوان "الحياة
بالأقدمية". ولسخرية الأقدار، هؤلاء يقدمون اليوم ك "نخب"
وك"أعيان". إنهم من يترشحون وينتخبون
ويعينون ليسيروا ما يمكن تسييره من إدارات ويترأسوا ما يمكن ترؤسه
من تنظيمات على أشكالها وألوانها وليخلدوا في مناصبهم بالإنزال والتزوير والتدليس.
هم يعمرون لقرون مع انهم لا يستطيعون كتابة أو إلقاء محاضرة واحدة في مجالهم.
فمثلا، منذ ثلاثين عاما في
مدينتي، لم أسمع نقابيا واحدا ألقى محاضرة أو شارك في ندوة حضرها عموم المتتبعين
بالمدينة حول واقع الطبقة العاملة أو مستقبلها أو حتى ماضيها رغم أن الكاتب المحلي
للفرع النقابي يخلد في الكرسي إلى الأزل وينعم ب"التفرغ النقابي"
و"التهجير السري" في لوائح الترقية. ونفس المسار يسلكه نظيره في
الحزب السياسي والجمعية الثقافية... وهذه الصورة ما كانت لتكون أوضح لو لم يحصر
التحري في مدينة من المدن الصغيرة وأنا أشكر مدينة القصر الكبير لأنها وفرت
لي ذلك.
مدينة القصر الكبير، إذن،
مغرب مصغر A Microcosom وما حدث ويحدث فيها للأعلام الأدبية يحث أيضا
لباقي الأعلام في باقي مدن البلاد والسبب وقوع مسؤولية تسيير الشأن العام والخاص
بين أيدي أعداء الثقافة، أو كما يحلو لي تسميتهم "قدماء الكسالى"
الذين عادوا للانتقام من القراءة والثقافة والفنون والعلوم التي ركبت في شخصيتهم
عقدة نقص تكونت منذ أيام اختبائهم عن أنظار مدرسيهم في الطاولات الأخيرة وترسبهم
في قاع القسم الواحد لسنوات قبل أن يدفعهم التقادم إلى القسم الموالي ثم إلى القسم
الموالي ثم إلى تسيير الشأن العام كما رسمت ذلك في نص "الحياة بالأقدمية"
المنشور ضمن نصوص المجموعة القصصية "موسم الهجرة إلى أي مكان"
الصادرة سنة 2006.
سؤال: مدينة القصر الكبير، هل هي مدينة سرد أم مدينة
شعر؟
جواب: كل المدن والقرى في
العالم هي مدن وقرى إبداع. الإبداع لا عاصمة له ولا عنوان ولا جنسية ولا لأحد الحق
في احتكاره ولكن، كما للصناعة خرائطها وللسياحة خرائطها وللديانات خرائطها،
كذلك للإبداع خرائطه على المستوى العالمي والعربي والوطني. ومن حسن حظ مدينة القصر
الكبير أنها أعطت من الشعراء والكتاب ما يضمن لها موطئ قدم في الخريطتين معا:
خريطة الشعر وخريطة السرد
سؤال: ما هو مستقبل القصر الكبير، في نظركم؟
جواب: مستقبل القصر الكبير رهين بتغيّريْن
اثنيْن. التغير الأول يَهُمُّ علاقات أبناء المدينة بعضهم ببعض. والتغير الثاني
يهم تغيير الدولة لطريقة تعاملها مع مدينة ما بعد 1984، عام "انتفاضة
الخبز" التي عوقبت المدينة بسببها ولا زالت...
مشاعل القصر الكبير
Flambeaux de Ksar
El Kébir
Torches of Ksar El Kebir
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
<title>http://raihani.free.fr/kasraoua/interview1.htm</title>
<meta
name="description" content=" مدينة
القصر الْكبير بعيون أبنائها ">
<meta
name="keywords" content="روائيو القصر الكبير، كتاب القصر الكبير،
قصاصو القصر الكبير، مطربو القصر الكبير، موسيقيو القصر الكبير، سياسيو القصر
الكبير، صوفية القصر الكبير، سينمائيو القصر الكبير، شعراء القصر الكبير، نقاد
القصر الكبير، فنانو القصر الكبير، رسامو القصر الكبير، باحثو القصر الكبير ">