رَيْحَانِيَاتٌ |
||
|
|
|
|
|
|
|
|
"وَرَاءَ كُلِّ
عَظِيمٍ أَقْزَامٌ"
مجموعة
قصصية
صدمة القزم: الوعي بالذات
"فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره.
كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة
وهي الفناء في المستبدين، حُقّ له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلا عن وظيفة
اجتماعية..."
عبد الرحمان الكواكبي
"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"
دار الشرق العربي، الطبعة
الخامسة، 2003، ص: 110
كان صغار الأطفال، لقصر قامته، يعانقونه ويلاعبونه
ويعاملونه كواحد من جيلهم. كان يلعب مع "كل جيل جديد" من أطفال
الحي. الأطفال يكبرون وهو يلزم مكانه ينتظر الجيل القادم من صغار الصبية ليكبروا
كي يلعب معهم ويؤجل وحدته وقلقه إلى ما بعد مغيب الشمس حيث تجلسه أمه على ركبتيها
لتحدثه عن أبيه الراحل الذي كان "رجلا عظيما"، عظمة كان يقرنها
دوما بالقامة فيقول لأمه:
-
متى سأكبر كالناس وأصبح عظيما كأبي؟
-
الكبر والعظمة، يا بني، قسمة ونصيب. من الناس من يأخذها بالتدريج كأصدقائك ومنهم
من يأخذها دفعة واحدة كما ستفعل أنت. لذلك، عليك بالانتظار!
-
ولكنني أريد أن أكبر مثل أصحابي رويدا رويدا وأعاشرهم في مغامراتهم. لا أريد أن
أبقى طفلا لثلاثين عاما ثم التحق بهم دون سابق إشعار...
- لا
تحزن، يا ولدي. لا تحزن...
وتمضي السنون وهو لازم مكانه وأجيال أصدقائه يكبرون
ويرحلون...
في درس التربية الفنية، في حصة "نِسَبُ
الأجْسُام"، أخرجه أستاذ المادة لمقارنته بزميله، قائلا وهو يضع يده على
رأس زميله:
- نسب الجسم
العادي هي سبعة ونصف بحساب الكف كوحدة قياس.
ثم ناقلا يده إلى رأسه:
- أما الأقزام،
فليست لهم نسب يعتد بها في القياسات الفنية لكن الأجزاء الطاغية في الكبر على حساب
باقي الأجزاء الأخرى فهي الرأس والكفين والقدمين...
كاد القزم أن يغمى عليه:
- هل
أنا قزم؟ هل سأبقى هكذا؟!...
في البيت، ألحّ
على رؤية صورة أبيه.
تسنى له ذلك بعد جهد جهيد ناورت خلاله الأم وراوغت لكنها
أخيرا أخرجت الصورة ووضعتها بين يديه: صورة أبيه القزم وهو يعانق في
حفل زفافه أمه القزمة.
كاد القزم أن ينهار على الأرض:
- أين
أبي العظيم، يا أمي؟
- العظمة ليست في الطول والحجم، يا بني. العظمة
في العطاء والحضور!...
- أين
سأحضر بهذه القامة وماذا سأعطي؟!...
-
الأجسام، يا ولدي، هي مجرد "لباس عمل" أو "وزرة".
الأجسام ليست غاية. إنها وسيلة لأداء مهمة
في هذه الحياة. كل الأحياء أجسادهم هي مجرد "لباس عمل"، "وزرة"
أما داخل اللباس فنتساوى جميعا: بشرا وأسودا ودلافين وثعابين وورودا وأشجارا...
لكن القناعة كانت تقف على خلاف مع القزم:
-
لماذا ولدتماني وأنتما مجرد قزمَيْن؟ لماذا؟!...
- كل
الأحياء تلد وكل الأحياء تعيش حياتها وتؤبدها في نسلها. الطوال يخلدون الطول
والقصار يخلدون القصر والبيض يخلدون
البياض والسمر يخلدون السمرة...
- ولكن
لماذا اخترتموني أنا من بين كل العالمين
كي تُخَلّدُوا فيَ قزميتكم...
هرب القزم من البيت.
تحت فعل الغضب، لم ينتبه إلا بعد سنة من التيه في مدن
البلاد وبواديها فوجد نفسه يمشي دون أن تلمس أصابع يديه الأرض فانحنى فوجد سرواله
الطويل قد ارتفع إلى مستوى الركبة وانتبه إلى جدعه فوجده قد تراجع عن طوله لفائدة أطرافه
السفلى وأطل على زجاج سيارة قريبة فوجد حجم رأسه متناسقا مع باقي جسمه المنعكس على
الزجاج فتملكه الشوق للذهاب إلى المرآة حيث كانت فرصته عارمة إذ لم يصدق عينيه فظل
ينظر خلفه للتأكد من أنه هو ذاته على الواجهتين...
تذكر القاعدة
التشكيلية: حجم الطفل يساوي خمس وحدات
وحجم الإنسان البالغ يساوي سبع وحدات ونصف، باعتماد الكف كوحدة قياس. أما القزم فلا يخضع لقياس. وتذكر بأن
وحدة القياس كانت عند الفراعنة هي البوصة ثم صارت في عهد النهضة الأوربية هي الكف
والتي بتغير حجمها، تتغير أحجام الأجساد.
أمام المرآة، أشهر كفه وبدأ يقيس جسده فوجد سبع وحدات
ونصف. لقد خدعته أمه طوال حياته بأنه سيكبر ذات يوم ويصبح عظيما كأمه، فهل
تخدعه هذه المرآة للبقية الباقية من العمر؟!
تملكه شعور بضرورة التأكد من الأمر من أفواه غيره من
الناس لكن سرعان ما أدرك سخرية الموقف عندما سيقف أمام الناس ليسألهم: "ألازلتم
ترونني قزما؟"...
فكرة ساذجة.
لا بد من تغيير الاتجاه.
فكر في الذهاب
للشارع الرئيسي ومجاراة المارة لمقارنة حجمه بأحجامهم.
قضى يومه يصول ويجول في الشوارع المكتظة بالمارة يقارن
نفسه بغيره حتى تبددت شكوكه وانفتحت عيناه على واقعه الجديد:
-
"الهجرة كانت الدواء!"
ثم
بصوت عال:
- "لقد صرت عظيما! أخيرا صِرْتُ عظيما!"
هكذا صاح وهو جالس على الدكة في الحديقة العمومية دون أن
ينتبه إلى الرجل الجالس بجانبه الذي بدأ يقارن لباسه بلباسه وملامحه بملامحه:
-
بماذا صرت عظيما؟!
-
بتغيري، بتطوري، بارتقائي سلم التطور...
- هل
وضعت يدك على كنز نفيس؟
- لا.
- هل تزوجت سيدة ذات جاه؟
- لا.
- هل
استطعت التسلق ورئاسة قبيلة أو جمعية أو منظمة أو حزب؟...
- لا.
- أنت،
إذن، لازلت قزما!
- كلا،
كنت قزما فيما مضى. أما الآن، فقد تطورت.
-
ستبقى قزما إلى حين انتزاعك مفتاحا من المفاتيح الثلاثة: المال والجاه
والقبيلة.
نهض الرجل وضاع بين المارة تاركا إياه يفكر مرة أخرى أن
لكل سلالة أقزامها وأن الأحجام ليست معيارا للعظمة. وبدأ يفكر في هجرة
ثانية يصبح بعدها "ملاكا" لا يُقَارَنُ بالبشر ولا يتخذهم مرجعا
فيقطع بذلك الطريق أمام أوهام العظمة
إلى الأبد.
18 سبتمبر 2010
حول الفنان زكرياء التمالح هذا
النص القصصي إلى قصة مصورة صادرة ضمن المجموعة القصصية المصورة المشتركة "إغراء
الاعالي" الصادرة سنة 2017 بدعم من وزارة الثقافة. انقر
أرقام الصفحات واقرأ النص:
العودة إلى مواد المجموعة القصصية
إِنِّي خَيّرْتُكُمْ، فَاخْتَارُوا!
"عَبْزْفْ"، القِرْدُ
الهَجَّاءُ
خريطة الموقع
جميع
الحقوق محفوظة للمؤلف
ALL RIGHTS RESERVED
e-mail : saidraihani@hotmail.com
<title>http://www.raihanyat.com/arabicversion-shortstory2-index.htm</title>
<meta name="description"
content="أعمال محمد سعيد الريحاني
القصصية، حذاء خاص بوجوه العظماء، أبو القاسم الطنبوري، نوادر العرب، الطاغية،
قزم، وراء كل رجل عظيم أقزام writing">
<meta name="keywords" content=" نصوص
قصصية-
كتابات سردية- سرد- مجموعة قصصية">